
عرفت الشاعر الزجال محمد موتنا منذ التسعينيات، في زمن كانت فيه الكلمة صادقة تحمل في طياتها نبض الحياة وصفاء الروح. كنا آنذاك مجموعة من الشعراء، تجمعنا المحبة الحقيقية للكلمة الصادقة والإبداع الأصيل، تحت ظل أسماء لامعة كالدكتور الشاعر محمد كنوف، والراحل عبد القادر لبيب، والشاعر محمد اللغافي، وآخرين ممن حملوا هم الشعر وحب الوطن في قلوبهم. كان محمد موتنا بيننا مبدعًا حقيقيًا، لا فقط بشعره، بل بأخلاقه وسلوكياته التي كانت تعكس إنسانًا محبًا للخير، مخلصًا للوفاء، متشبثًا بقيم الإبداع الراقي
كانت تلك الأيام مدرسة من نوع خاص، نقرأ فيها قصائدنا كما تُقرأ الأرواح، نستمع بشغف لما يبوح به كل واحد منا، لا نقد جارح ولا منافسة مريضة، بل كنا نتعلم من بعضنا البعض ونتبادل الخبرات كأننا نروي شجرة واحدة أصلها في الأرض وفروعها في السماء. كان الشعر حينها لغة المحبة والوفاء، وجسرًا يربط بين القلوب الطيبة الباحثة عن الجمال في الحرف والصدق في التعبير، واليوم، حين أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظات، أشعر بدفء تلك اللقاءات وبحلاوة تلك الأيام التي غابت لكنها بقيت محفورة في الذاكرة والوجدان. إن استقراء نصوص محمد موتنا اليوم هو استعادة لذلك الزمن الجميل الذي علمنا أن الشعر ليس مجرد كلمات، بل هو حياة نعيشها ومشاعر نغترف منها لنظل أوفياء للحب الذي جمعنا، وللكلمة التي علمتنا أن الوفاء في الإبداع يبقى خالدًا مهما تغيرت الأزمنة وهذه هي القصيدة وقراءتي لها:
خَلِّيكْ مَنْ هْنا
لا تْكُونْشْ مَنْ لْهِيهْ
راكْ انْتَ مَنْ هْنا
ما ٱنتاشِي مَنْ لْهِيهْ
راكْ مَخْلُوقْ لْ هْنا
ما مَخْلُوقْ لْ لْهِيهْ
واخَّ تْغِيبْ مَنْ هْنا
وْ تَلْقَى راسَكْ لْهِيهْ
مَحْسُوبْ عْلَى هْنا
ما مَحْسوبْ لْهِيهْ ..
ما مْسَكِّيشْ بْ لَحْلِيبْ
ٱلْبَرّْ ٱلِّلي هْنا
وْ لِيهْ ما يَتْشَهَّى داكْ
ٱلْبَرّْ ٱلِّلي لْهِيهْ
لِيهْ ما يَتْشَهَّاوْ ٱمّالِيهْ
وايِّيييييييهْ !!!
وْ ٱنْتَ ما شِي مَنْ ٱمَّالِيهْ
واخَّ تْبَدَّلْ ٱلسّْمِيَّه
واخَّ تَمْحِي لَكْنِيَه
واخَّ تَنْكَرْ جَدَّكْ
واخَّ تَفْسَخْ جَلْدَكْ وْ تْبِيعِيهْ
واخَّ تَحْرَڭْ لَوْراقْ
واخَّ تَحْرَڭْ ٱلرّايَه
واخَّ تْكَدَّبْ ٱلْآيَه
وْ تْبيِعْ رُبْعْ ٱلْمَقامْ
وْ رَصْدْ ٱلْعُشّاقْ
وْ تْبَدَّلْ ٱلْمايَه
وْ تْبَدَّلْ ٱلنَّمْرَه
وْ تْبَدَّلْ ٱلنَّظْرَه
وْ تْبَدَّلْ ٱلْهَدْرَه
وْ تْبَدَّلْ ٱلنَّغْمَه وْ تَشْكُرْ ٱلنَّعْمَه
حاسْبِينَكْ مَنْ هْنايا
ما دايْرِينَكْ فْ حْسابْ لْهِيهْ
حِيتْ ٱنْتَ مَنْ هْنا
ما شِي مَنْ لْهِيهْ…..
هذه القصيدة التي كتبها محمد موتنا السباعي تعكس صراع الهوية والانتماء، وتغوص في أعماق الإنسان الباحث عن جذوره الحقيقية وسط عالم يتغير ويتحول. القصيدة تخاطب الإنسان الذي يحاول الهروب من ماضيه أو تغيير هويته، لكنها تؤكد له في كل بيت أن أصله لا يمكن الفرار منه، وأن جذوره تظل راسخة مهما حاول الابتعاد أو التنكر. تتكرر في القصيدة لازمة “راك انت من هنا ماشي من لهيه”، في إشارة قوية إلى التشبث بالأرض والهوية الأصلية، مع رفض التغيير المصطنع أو الذوبان في ثقافات أخرى قد لا تشبه الإنسان في جوهره
القصيدة تلامس الجانب النفسي والاجتماعي للإنسان الذي يعيش بين ثقافتين أو بين مكانين، حيث يشعر بالانتماء لموطنه الأصلي رغم محاولاته التماهي مع بيئة جديدة أو ثقافة مغايرة. تعكس الأبيات رفضًا قاطعًا لفكرة الاستلاب الثقافي أو الذوبان في الآخر، وتصر على أن الهوية ليست مجرد اسم أو مظهر يمكن تغييره، بل هي روح متجذرة ودم يسري في العروق. في هذه الأبيات تحذير ضمني لمن يحاول طمس ماضيه أو التنصل من أصله، فالمحاولات كلها تبوء بالفشل لأن الانتماء لا يتعلق بالأسماء أو الأوراق أو المظاهر بل هو أعمق من ذلك بكثير
عندما يقول الشاعر “واخّ تْغِيبْ مَنْ هْنا وْ تَلْقَى راسَكْ لْهِيهْ مَحْسُوبْ عْلَى هْنا ما مَحسوبْ لْهِيهْ”، فهو يؤكد أن الجغرافيا لا تمحو الهوية، وأن الإنسان وإن ابتعد عن أرضه يظل محسوبًا على أصله، يحمل سماته وعاداته وروحه التي لا يمكن اقتلاعها. في هذه العبارة توبيخ ولوم لمن يظن أن المسافة أو التغيير الظاهري كفيل بمحو ماضيه، حيث يظهر هذا الإحساس بقوة في الأبيات التي تتحدث عن تبديل الاسم أو محو الهوية أو التنكر للجدود، كلها محاولات عقيمة لأن الأصل لا يتغير مهما فعل الإنسان، ثم تأتي الأبيات التي تتحدث عن حرق الأوراق وتغيير النظرة وتبديل النغمة والكلام، لتقول بصوت صارخ إن كل هذه التغيرات سطحية لا تمس الجوهر. يمكن للإنسان أن يغير مظهره أو لغته أو حتى أفكاره، لكنه يظل في أعماقه ابن تلك الأرض التي ولد فيها، يحمل في روحه رائحة ترابها وصوت أزقتها ودفء ناسها. وهذا ما يبرز في تكرار “حاسْبِينَكْ مَنْ هْنايا ما دايْرِينَكْ فْ حْسابْ لْهِيهْ”، الذي يعكس نظرة المجتمع الأصلي للإنسان الغريب عنه مهما حاول الاندماج فيه. الآخرون يعرفون أنه ليس منهم، يشعرون بذلك حتى وإن أنكر هو نفسه
القصيدة ليست مجرد كلام عن الانتماء للأرض، بل هي صرخة ضد التنازل عن الأصل، ودعوة للتمسك بالهوية الحقيقية في زمن تغري فيه العوالم الأخرى الإنسان بوعود زائفة، عندما يتحدث الشاعر عن بيع المقام ورصد العشاق وتبديل الراية، فهو ينتقد بشدة من يبيع كرامته وتاريخه مقابل مكاسب وقتية، أو من يحاول استبدال تاريخه العريق بثقافات دخيلة لا تشبهه في شيء. الأبيات الأخيرة تحمل تحذيرًا صريحًا بأن من يحاول التنكر لماضيه سيظل في أعين الآخرين محسوبًا على مكانه الأصلي، حتى وإن تبرأ منه،
أما عن الإحساس العام في القصيدة، فهو مزيج من الحنين إلى الجذور والغضب من محاولات التغيير المصطنع، مع نبرة حزن عميقة على من يضيع هويته في متاهات الغربة أو التظاهر بما ليس فيه.
الشاعر يخاطب كل من يحاول التماهي مع ثقافات أخرى على حساب أصله، ليقول له إن أصلك لا يُباع ولا يُشترى، وإنك مهما ابتعدت ستظل ذلك الشخص المرتبط بأرضه وأهله وتاريخه. القصيدة بهذا المعنى ليست موجهة لفرد بعينه، بل لكل من تسول له نفسه أن ينسى من أين أتى ومن هم أهله الحقيقيون
في خلفية هذه الأبيات نجد إحالة إلى فكرة الكرامة، إلى أن الإنسان يجب أن يكون وفيًا لأصله، متمسكًا بجذوره، غير منبهر بما هو خارجي. الشاعر يذكّر بأن البر الحقيقي هو هنا، في الأرض التي ولد فيها الإنسان، في أهله الذين يعرفونه حق المعرفة، لا في أماكن غريبة لا تشعر به حتى وإن لبس لباسها وتحدث بلسانها. اللافت أيضًا أن القصيدة تحمل طابعًا شعبيًا بلهجة قريبة من الناس، وهذا يجعلها أكثر تأثيرًا وقربًا للقلب، إذ إن البساطة في التعبير هنا تزيد من قوة الرسالة وتجعلها تصل مباشرة إلى الروح دون تعقيد
القصيدة بهذا الشكل مرآة للصراع بين الأصالة والمعاصرة، بين الجذور والاغتراب، بين الذات وما يحاول الخارج أن يفرضه عليها. إنها قصيدة تدعو الإنسان لأن يتوقف لحظة ويتأمل من هو حقًا، ماذا يعني أن يكون “من هنا”، وما الذي يفقده إن هو تخلى عن هذا الانتماء لصالح أوهام زائفة، وفي النهاية، تبقى الرسالة الأهم أن الكرامة تبدأ من معرفة الأصل، والوفاء له، وعدم التنكر للذات الحقيقية مهما كانت المغريات أو الضغوط.
………………….