Skip links

قراءة في شعر الشاعر/ بشري العدلي – للدكتور/ رمضان الحضري .. مصر

قلة من قلة أولئك الذين يدركون أن ماهية الشعر في حسن التشكيل وروعة التبيين والقدرة على تبليغ الرسالة والحصول على أهداف من النص، ومثلهم من يعرفون أن للشعر وظيفة اجتماعية تتمثل في تغيير الاتجاهات وتسليط الضوء على حركة سير عجلة المجتمع إلى الأمام أو العكس، لتصبح الكلمة ضرورة للحياة وليست رفاهية وترفا، حيث تصبح الكلمة عدسة مكبرة لما يدور حولنا في المجتمع، لتقدم للقارئ مناطق الضوء ومناطق الظلام، وتبرز له جداول الحق وكهوف الظلمات، فالكلمة في النص تقدم رأيا شخصيا أو مجتمعيا، حيث إن الكاتب الحقيقي هو نائب حقيقي عن الشعب الذي يكتب له، وعن المجتمع الذي ينتسب إليه.

أمتلك وجهة نظر متسعة للغاية حيث أرى أن الكتابة والقراءة حق مكفول لكل إنسان فيما يشاء، لكنني أشترط إفادة من حولك بما تقرأ وتقنع من قرأ لك حينما تكتب.

تأتي هذه التقدمة للحديث عن شعر الشاعر المصري الحبيب / بشري العدلي، حيث إنه شاعر من طراز فريد يتمسك بأصالة النص الشعري العربي تمسكا لا مثيل له، وتزوغ عيناه تجاه التجديد في شكل القصيدة العربية، فيحاول جاهدا أن يجد الطريق الصالح للتطوير، وسوف أقدم نماذج عدة من صدقه في الالتزام بالأصالة، ومحاولات البحث عن دروب جديدة في قصيدة النثر بشكل خاص، يقول بشري العدلي في قصيدة موسومة ب( أنشودة وطن)

وطني ، حُداؤك أطرب الآذانا

وصدى أنينِك زلزل الأركانا

وطني عزفت هواك في شعري أسى

مازال فيك يعاتب الأوزانا

وطني مروجك لونها من أعين

فيها بريق يلهم الألوانا

ونسيمك الغادي تطير خلاله

أسراب طير تهجر الوديانا

وطني جياعك في الجهات تفرقوا

وغلال تبرك ترقب الجوعانا

وصمودك الصخري سِرُّ صمودنا

ومياه بحرك تصنع الشطآنا

أمجادك الجذلى يعانِقُها الهوى

وشراعُ عِزِّكَ يُعجبُ السفّانا

وطني عطاؤك لا يحيط به المدى

ونَداك ياوطنَ الأباة نَدانا

أعطيتَ هذا الكونَ نزفَك قانيا

وسقيتَ صرفاً بوحَكَ الإنسانا

أسرارُ غيثك لم يجفَّ سحابُها

تروي بها تبرَ الهوى الظمآنا

ويداك يذكرُها السخاءُ ، ومثلُها

جُبِلت على حبِّ السّخاء يدانا

أرضعتَنا نبْضَ التسامح والعُلا

ونزعتَ من أعماقِنا الأضغانا

وجمالُك الغافي على خضر الرّبا

سيظل في أوصالنا ريانا

ترتاده حيناً نسيمات الضحى

ويغيب في سحر الضحى أحيانا

ومداد تاريخ الإباء على المدى

ماخط سفرا للعلا لولانا

يامن هواه يجول في أمشاجنا

نغما يردده الهوى ألحانا

أحببت بَرَّكَ بالزهور مطرّزا

ولمى الربيع ، وغيثَك الهتّانا

أحببت بحرَك والعبابَ ولؤلؤاً

يُغري هواة البحر ، والمرجانا

أحببت أهلك في الدفاع عن الحمى

حملوا السلاح وجهزوا الأكفانا

جمعوا العزائم للكفاح وأبحروا

وتكاتفوا واستنهضوا الربانا

سيّجْتَ فيهم كبرياء أُمَيَّةٍ

وصَقلْتَ منهم مُرهفاً وسنانا

وسواك لايغري نفوسا أولعت

بالحب لو كان المحب سوانا

وبنا نواميس الإباء عريقة

وعلى مساحات العلا تلقانا

يصيح النص بصرخات عالية تفيض بالحب والاهتمام بالوطن والصدق في الدفاع عنه، مما يجعلها قصيدة عصماء، إنها تؤرخ لحظة من اللحظات فائقة الصدق لشاعر مولع بوطنه، وإشارات الحب تبدأ من البيت الأول وحتى البيت الأخير، وكذا إشارات الشجاعة والمروءة، ويفند جماليات الوطن من خلال جغرافية لا يعرفها غيره، وحضارة لم تنبع إلا منه، وطبيعة لا توجد إلا به من نسائم رقيقة وسماء نقية ونهر خالد وأرض خصبة، وأناس رائعين.

يمثل النص حالة من حالات الافتتان بوطن لا شبيه له، وحالة موسيقية نادرة فالنون المفتوحة في الروي جعلت النص سيمفونية عربية خالصة تنشر موسيقا الحب والنشوة في عقل الشاعر، ويقوم بدوره بشدوها وغنائها لتوظيف ماهية الشعر في خدمة الوطن، فالشاعر يتمسك بحالة الحب والشجاعة للتوعية والتعبير عن ذاته وذات أفراد المجتمع المصري.

على الرغم من المحافظة على الجذور الكلاسيكية للقصيدة العربية، إلا أن الشاعر يروح ببصره تجاه التجديد لفتح درب جديد للنص الشعري العربي عساه أن يخرج من تكرار الصورة العربية القديمة، ويتيح نمطا جديدا للتصوير والموسيقا، وسوف أقدم مقتطفا من هذه النصوص، حيث يقول الشاعر في قصيدة نثرية قصائده :-

(لا يدخل النور من نافذتي

المفتوحة على مصراعيها

أحاول أن أخرج من الباب

ولا أستطيع يبدو أنني أعيش في قبر

جئت ولم أعلم

كان بودي أن أمارس طقوسي

ليلة أو ليلتين لماذا؟

لست أدري

نعم لأنني كنت أفكر كثيرًا في الحياةْ

أحلامنا مشوهة

وابتسامتنا تائهة

كيف تغادرنا دون وداع ؟

أتترك أحلامنا في صراع؟

دفاترك تسأل عنك هل تعود ؟

أتكتب مرة أخرى ؟

أتمحو مرة اخرى ؟

أتقرأ رسالتك المرتجفة ؟

أتطوي حروفك الثائرة؟

قلمك ينزف ألما

حرفك ينشد حلما

كنت تحلم بالربيع في الأرض النبيلة

كنت تزرع الأمل في العوالم البغيضة

أبشر الرياح السموم وجراد الليالي

للموت العاصف يقتل أحلامي

خناجر كانت تطعن أفراح قلبك

تقتل عصافير الفرح في صدرك

كنت تبحث عن ينابيع النور

وتنثر عطر المحبة في الزهور

كنت تطارد أسراب الظلام والأفاعي

وأنت تحلم بالسرب الأخضر

لاشك في أن الشاعر هنا يقف عاجزا أمام تسلط الطبيعة، وقد جاءت سلطة الطبيعة على الشاعر منذ السطر الأول دون مبرر لها، وكأنه يتخلص من التبرير والتعليل، وهذا التخلص غير المبرر ليبرر في حد ذاته لماذا يلجأ الشاعر لقصيدة النثر لتصبح حالة شعرية جديدة.

منذ ظهور قصيدة النثر، وربما هي أسبق من قصيدة التفعيلة والتراث في الظهور، ولكن التنظير لها تأخر حتى أخذت تسميتها في فرنسا وانجلترا ثم وصلت إلينا التسمية، ولست أدري ما السر في أننا أصبحنا نتبع الغرب في التنظير والتطبيق، حتى تكاد القدم تقع على القدم!!!

كانت محاولات شعراء قصيدة النثر ترمي إلى كسر الأسوار بين الكلمة الشعرية وغيرها من الكلمات السردية والدرامية، لتشتمل القصيدة على التنوع الكلامي من جميع الاجناس الأدبية، حيث تكون القصيدة وحدة كوحدة النص السردي، تخلو من الحشو لتهتم بالتكثيف، وتبتعد عن التفكك لتهتم بالوحدة العضوية المتماسكة في بنائها وشكلها الفني، وكثرت الموضوعات التي تتحدث عن حالة الإنسان في صراعه مع الطبيعة، حيث إن قصيدة النثر نبتت في بيئة أكثر علمية مما جعلها تنظر للعلم على أنه سيظل قاصرا في ترويض الطبيعة وتيسير سبل الحياة فيها، لكن الشعراء اقتصرت رؤاهم على عداوة الطبيعة وقهرها لهم، فهذا الشاعر بشر العدلي يرى أن الطبيعة اشترطت أن يدخل الضوء من النافذة إذا قمنا بفتح النافذة، وعلى الرغم من إنه قام بفتح النافذة إلا الضوء يرفض أن يدخل من النافذة، فتصل الدلالة إلى مستواها الأعلى، حيث إن الظلام مستقر، وأن الضياء لم تعد لديه القدرة على مقاومة هذه الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض.

فقد ضاقت الحياة بما رحبت، فلم يستطع النور الدخول من النافذة ولم يستطع الشاعر الخروج من الباب، فغدت الحياة غير طبيعية، رغم أننا نعيش في الطبيعة.

تعود فكرة جهاد الإنسان مع الطبيعة إلى شارل بودلير ومالاراميه وغيرهما من كتاب أوربا في بداية القرن العشرين، حيث سار وراءهم أمير الشعراء أحمد شوقي فتضمن كتابه المعنون ب(أسواق الذهب) على ثلاثة نصوص من الشعر المنثور، وقد كتب على هذا المنوال جورجي زيدان وميخائيل نعيمة ومي زيادة وأحمد زكي أبوشادي وغيرهم، واختاروا نفس التسمية (الشعر المنثور).

حينما استقر اسم قصيدة النثر وجدنا أسماء عربية كثيرة لمعت في هذا النوع مثل أنسي الحاج ومحمد الماغوط ومحمد آدم وأحمد المريخي وعادل جلال وغيرهم كثيرون، غير أن عدم فهم البعض لقصيدة النثر أغرى المتسلقين ليدخلوا مجالا لا يعرفونه ولا يألفونه ويكتبون وبطرق شتى ينشرون ما يهرفون به.

وقد جاء نص شاعرنا بشري العدلي ليقوم بمزجية جديدة في قصيدة النثر بين ما بدأت به القصيدة من مقاومة الطبيعة في الموضوع والتكثيف والوحدة في الشكل وبين أنماط الفكر في القصيدة العربية القديمة، وكأنه يفتح طريقا بين الفكرتين الجديدة والقديمة في محاولة لتأليف القلوب نحو قصيدة النثر، وتطمين النهج القديم أنه لم يخنه.

شكرا لشاعرنا المصري الكبير بشري العدلي على محاولاته المتكررة في التجديد ونفض الغبار عن معدن الشعر العربي الذهبي الأصيل.

……………………….

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag