
سقط سهوا عنوان مجموعة قصصية للدكتورة ميرفت محرم، جالت في أروقة الفن القصصي لتقدم نموذجا مثاليا معبرا عن شعور وطني بالمواطن المصري في فترة زمنية شديدة الخصوصية وهي أعقاب ثورة يناير 2011م. ومن هنا فقد ناسب القصة القصيرة عدم ترسيم شخصياتها من حيث موقعها الاجتماعي أو تركيبها النفسي وإنما نظرت إليها كعامل له دور في إنتاج الدلالة فعن طريقها تتشكل الأحداث وإطار السرد وتتداخل الملفوظات. فالشخصيات ذات طابع عام،كالمعلم/ الموظف/عامل النظافة/الطيار/ الفلاح.. وفي بعض القصص كانت تذكر أسماء دالة على الشخصية كشخصية عقيل في قصة … وأحيانا توظيف الطير كالغراب في قصة المُعَلم، أو تتخذ من الضمير شخصية كما في قصة”أزمة ضمير” مما قد يشعر به بعض الشخصيات أو معظمهن بالاغتراب،والعبثية أحيانا..إنها شخصيات شبحية، منفعلة، مسلوبة الإرادة، مأزومة، مرتعشة..
أما الفضاء المكاني فلم يعد مجرد ديكور أو إطار شكلي بل أصبح عند الكاتبة قيمة لغوية مهمة، يسهم بفاعلية في بلورة وتشييد عالم المعنى.
ويبدو أن الاهتمام القوي بالمضامين الفكرية والأنساق المرجعية دون أن تعطي الجوانب الفنية الأهمية الكافية مما أوقعها في بعض الجوانب الخطابية والوعظية ولا سيما في نهايات القصص، تأمل هذه النهاية:
“حرام عليكم، وجبة واحدة تكلفني نصف مرتبي فماذا أفعل بالنصف الآخر بقية الشهر؟ أين تعيشون؟ ولمن توجهون رسالتكم الإعلامية؟ ارحمونا يرحمكم الله ربنا يــ..”قصة طبق اليوم.
وهي نهاية تكفي لتعرف مضمون القصة وفحواها، ونلحظ فيها نبرة السخط والضيق من سوء الأحوال الاقتصادية، وهي نهاية معبرة عن شعور المواطن البسيط الذي يعاني شظف العيش وضيق الرزق ..
القارئ عند القاصة لم يعد مستهلكا للنص، بل أصبح مطالبا بملء البياض الدلالي والمساهمة في صناعة وبلورة العالم الرمزي والبنائي.. وينبغي ألا نغفل الجانب اللغوي البلاغي في الأسلوب القصصي عند القاصة، فمن الجلي اقترابها من بلاغة الأسلوب القصصي والسردي القديم المتمثل في السجع والازدواج في بلاغة تحاكي بلاغة القدماء، كقول القاصة في “الجريمة”
وقف المجني عليه أمام المحكمة والحضور، وبصوته الجسور، راح يروي ما حدث له على مر العصور..
تحدثت من ماضي العريق، ليظهر بشكل واضح ودقيق، الفارق الحقيقي بين ما كان، وما أتعرض له الآن، من اعتداءات لم تكن في يوم من الأيام في الحسبان..
فاللغة هنا قائمة على بلاغة السجع، وما تحدثه في نفوس المتلقين من ترديد وتنغيم.
ويبدو أن الاهتمام القوي بالمضامين الفكرية والأنساق المرجعية دون أن تعطي الجوانب الفنية الأهمية الكافية مما أوقعها في بعض الجوانب الخطابية والوعظية فتأمل قولها في قصة باب النفق:
اهدأ يا أخي؛ إنها مبيدات زراعية لكنها محظور استخدامها دوليا فهي تؤدي إلى تسميم الزراعات بمواد مسرطنة ..
ومن الذي سمح باستيرادها وتداولها وهناك جهات رقابية مهمتها فحص الواردات ..
فالمباشرة والوعظ بارزان في القصة بشكل لافت..
عتبات القصص:
سقط سهوا- الاختيار الصعب-التاريخ- الصيد الثمين-الدموع الحائرة-البيان-دنيا العذاب-وسقط الشعار-إنجازات حكومية-هرم ماما-الديلفري- اللافتة- الليل وآخره-خطأ في الاتصال- ذهب القرود-الطبيعة تتفاعل-طبق اليوم-نداء استغاثة- جحود الأبناء- القيمة المفقودة-هيبة زمان- أزمة ضمير-المعلم-باب النفق- الجريمة.
عتبات نصية لقصص قصيرة وطويلة نسبيا، يمكن إدراجها تحت مجهر نقدي ممنهج، لنفسج مجالا لتوليد دلالات جديدة لم تبح بها القصة، أو المسكوت عنه في بناء القصة من خلال أنساق مضمرة، وخبرات متوارثة عبر أجيال وأجيال.
من هذه العناوين ما كان كلمة واحدة، كالتاريخ، والدليفري، والجريمة،اللافتة، المعلم.. وكلها عتبات مفردة معرفة بأل، وليست نكرات، فالتعريف يشير إلى التحديد؛ فكلمة التاريخ لا تشير إلى التاريخ المعروف لدينا بل تراوغ وتخاتل لتقول تاريخ الصلاحية المنتهي، والجريمة المعرفة بأل لا تدل على تحديد ولا تخصيص فهي مجرد جريمة أي أنها نكرة لشيوعها واتساعها عبر أجيال وأجيال تعرض المواطن إلى الغبن والظلم والجور دون استحقاق أو تكريم، وهو الذي أفنى حياته فداء وتضحية ولم يلق إلا الجور والغبن. وكأننا أمام دلالة معكوسة فالمجني عليه يغدو جانيا يستجوب أمام الحضور، وكأنه هو الجاني وليس المجني عليه. لإحداث خلخلة في ثوابت قارة في أذهان الناس.
ومجموعة أخرى من العناوين ثنائية الكلمات وهو الغالب الأعم.كسقط سهوا، وأزمة ضمير، دنيا العذاب وغيرها مما ذكرت ويغلب عليها الدلالة المقصودة الحقيقية لأننا لو نظرنا إليها نظرة ترددية مروحية بالنظر إلى المضمون سنجد أنها عناوين دالة وفاعلة في المحتوى العام للقصة.
ومما يلاحظ على هذه القصص الملتهبة أنها قصص من قلب المجتمع راصدة الحياة السياسية والاجتماعية والبيئية معلية دور القيم والأخلاق والمبادئ على ما عداها. وتنهض فنيا على تقنية المفارقة وكسر توقع أفق القارئ بطريقة لافتة مثيرة. تجذب القارئ منذ الكلمة الأولى ولا يستطيع أن يتركها إلى ما عداها لشغفه وتشبثه باللغة السهلة التي تناسب الأعمار كافة. فهي لغة فنية بسيطة في بنائها ومعناها ولا تتطلب اللجوء إلى معجم أو قاموس لكشف غموضها، لغة شفيفة رقيقة سهلة تناسب لغة السرد عامة . وتتراوح القصص طولا وقصرا حسب مغزاها ودلالتها المعبرة، فالقصة لا تطول كثيرا بل يمكن أن تكون ومضة قصيرة تؤدي المعنى بدقةمتناهية، فهي سريعة كوخزة الإبرة لكنها تفجر الدلالة بقوة. بل إن بعض القصص تشبه في بنائها الأحاجي والألغاز فتقول في قصة”هيبة زمان”
“يسير في السوق بضعف وهزال، يشفق عليه، ويمصّ الشفاه من يعرف ماضيه العريق، وقوته التي كان يعتز بها ويفخر. يدخل محلا للجزارة، يخرج ذليلا ، يكرر المحاولة في محلات الأسماك والخضروات والفاكهة، يستقبله التجار باحتقار شديد ، يلعن تلك الأيام التي ضحضحت قوته وأضاعت هيبته أمام غيره من العملات”
تدور القصة أو قل الأحجية في خط متنام متسارع، معتمدة على المضارع المستمر، في بنائها ، وفي كل جملة تجعل القارئ يتمثل شخصية “الجنيه” وما آل إليه حاله من ضعف وهزال، لتدخل في تضاد مع تذكر الماضي القريب حيث القوة والفتوة والانتعاش والازدهار. مما يجعل القارئ مأخوذا في شغف وتحسر.
القصة القصيرة عند د. ميرفت محرم ناطقة بحال المواطن البسيط وخالية من الإسفاف وإشتعال الغرائز التي نجدها عند أنصاف المواهب، بل هي قصص هادفة تقوم على تربية الذوق العام وتنمية الخلق والتمسك بالقيم والمبادئ معلنة رفضها التام للشعارات الزئفة التي يسكن بها المسؤولون أوار المواطن.
ولعلنا نلحظ تنوع المجموعة القصصية “سقط سهوا” وكلها تدور حول ما نادت به ثورة يناير من عدالة اجتماعية ووحرية وقد نجحت القاصة في ذلك لانتهاجها مسلكا فنيا معبرا عن غرضها مع الحفاظ على القيم المكتسبة للشعب المصري، ولا غرو إذا قلت إنها قدمت باقة زهور جميلة لكنها لا تخلو من أشواك وقد أطلقت قذائفها المدوية في وجه المسؤول عن توافر العدالة الاجتماعية المنشودة.
……………………………………..