
لاشيء غير الصمت.. امرأة تدير ظهرها للظلام في غرفة بعيدة ؛ والضباب، الشتاء.. والصمت والسكون … تنزلق من بين يديها ورقة بيضاء؛ والقلم لايزل يُسَجّلُ … نسمات الربيع تأرجح سعف النخيل؛ والظلال تتكاثر فتصنع دائرة للعزلة الحزينة. لم تكن الأرملة الصغيرة سوى لحن يعزف للفراغ مسامه الملونة.. في البعيد لاح “نورج” بدأ يدور ؛ فغمر صمت الحجرة بمياهه الزاعقة … كل شيء حولها يشير إلى الموت، لكنها تعلقت بفرع من شجرة الحب الأخيرة . الهواء يتدافع حول الحجرة بغزارة… ثمة موسيقا تعزف لحن ” بيتهوفن” الأخير؛ لكنها ظلت شاردة لدقائق، والدموع تتساقط من عينيها الواسعتين؛ فتملأ الحجرة بالوجع والصراخ.. لا أحد هناك يوقظها من حلمها، لكنها وبكل اصرار ظلت تكتم الصرخات داخل القلب الصغير . الأرملة الصغيرة لازالت تقطف أزهار ” البانسيه” وتدير ظهرها للوقت؛ وللمكان، والعالم… لكنها ظلت تمسك بيدها البيضاء الوردة الحمراء . ثمة ضوء يلمع في الغرفة.. طرق بالباب يتوالى؛ والرياح تعصف؛ وأيلول لايزل يعبث بأطراف الحجرة … كان يمكن لها أن تطرق الجدران؛ لكنها ظلت تلتقط أنفاسها الأخيرة . جنازة تتقدمها الورود؛ ورائحة أريج العطور تهب على المكان.. لم تكن لتحلم بأكثر من ذلك؛ والمُشَيِّعون يحملون جسدها الرهيف إلى مثواه الأخير!!. عبارة وجدوها في اليوم التالي منقوشة علي قبرها الحزين : ” غريبة ماتت وهي تحلم يومًا ما .. بالوردة الحمراء ” .
-٢-
ربما كان على فتاة مثلي فقدت أبويها في الحرب أن تصمت وتستسلم للوحدة والفراغ والحزن. بعت منزلي؛ واشتريت كوخًا صغيرًا بالقرب من الغابة البعيدة… في الصباح أتمشى بين ظلال الأشجار وأكلم الصخور وأجلس لدى بركة الماء اتأمل الفُقَّاعات التي تتكسر علي السطح… أحاول – كل يوم – أن أنسى… يتساقط المطر حثيثًا على أغصان الأشجار؛ ويقترب الظلام… لابد لي من العودة؛ لقد تأخرت كثيرًا.. أصوات الغابة تتداخل … ثمت فتى في العشرين كان يئن؛ والدماء تندفع من قدميه العاريتين… لم أتمالك نفسي؛ واندفعت نحوه بسرعة؛ هالني منظر الجرح الغائر والدماء؛ خلعت بلوزتي وشددتها فتمزقت؛ ثم كورتها كضمادة ولففت الجرح العميق. كان ينظر لي باهتمام ودهشة؛وهو يتأمل نصف جسدي الأعلى عاريًا. داريت جسدي ما استطعت ببقية البلوزة فنظر خجلًا إلى الأرض … أمسكت بيده وسدنته، وسرت به نحو كوخي القريب.. كان الثعبان الذي لدغه قد أرهق أعصابه المتعبة فبدأ يترنح .. وضعت يده وراحته على كتفي وواصلت المسير… أدخلته إلى الكوخ ومددته فوق سريري الوحيد… جلست أرقب أنفاسه المتحشرجة؛ وسرحت في ماضً ممتد؛ فهذا الكوخ لم يدخله أحد منذ ثلاثة أعوام؛ فكيف لي أن أستضيف فتي وأمدده على سريري؛ وأنا الفتاة التي لم تجرب الحياة والحب بعد.. لقد مات والدي أثناء الحرب إثر قنبلة فجرت المكان؛ ولقد نجوت بالصدفة حيث كنت في السوق أشتري بعض الحاجات للمنزل؛ ولما عدت لم أجد سوى الحطام؛ فابتعت الحطام وحططت رحالي في الكوخ المرابض على أطراف الغابة الوسيعة… طردت أفكاري السوداء وبدأ النوم يداعب عيني الحالمتين.. في الصباح بدأ الفتي يفيق.. وجدني ممدة عند قدميه.. ربًّت علي وجهي فاستيقظت وأحسست برعشة غريبة؛ لكنني وجدتني متلهفة للاطمئنان علي حالته؛أتلهف قلت : أأنت بخير الآن ؟!. بدأ ينظر لعيني؛ ولشعري المنسدل فوق صدري العاري.. أمسك يدي ليقبلها؛ فعادت الرجفة إلى جسدى من جديد !!. تحرك مغادرًا؛ وظللت أنظر له بحنان.. التفت لي وهو عند الباب وأشار ملوحًا بيديه … خرجت روحي خلفه عندما غادر؛ وظللت أرقب خطواته الواهنة .. تدثرت بالوحدة من جديد؛ وأغلقت باب الكوخ لأكمل نومي … في المساء كانت الغزالات تحيط بالكوخ الصغير؛ وفتى في العشرين يحمل سلة خبز وطيور وفواكه.. طرق الباب ففتحت .. وضع المائدة فوق فراشي الصغير؛ وانطلق تتابعه الغزالات خلف الغابة الممتدة
……………………………………