Skip links

عرض لمشاركة الشاعر والناقد المغربي الدكتور/ علال الحجام والتي تحمل عنوان ( مجرد شاعر – ليس شيخا ولا مريدا ) والتي تضمنها كتاب مدارات الثقافيه الثامن الخاص بالدراسات بمناسبه اليوم العالمي للشعر

[1]

يُرْوى أن شاعراً مبتدئا جاء يخبر الفرزدق بمحاولته نظمَ الشعر، وكأنه يستشيره سائلاً عن سبل الارتقاء إلى طبقة الفحول، فأجابه الفرزدقُ ساخراً: إنّ الشعر أشبهُ ما يكون بجملٍ سمينٍ ذُبح منذ القدم فتقاسم لحمه فحول الشعراء الأوائل، وأخذوا منه ما يلذّ لهم، وما تركوه من قليل غنِمَه اللاحقون، وهكذا أخذ الجيّدُ منه يتضاءل شيئا فشيئا. وإذا كنت أنا نفسي لم أضفر منه إلا بالكرش والأمعاء، يقول الفرزدق، فماذا سيبقى لك منه يا ترى؟ (1).

ربما كان التاريخُ الأدبيّ يعيد نفسه، وحسبي أنّ ما يحدث الآن من صراع بين القديم والحديث هو نفسه ما كان يحدث في العصرين الأموي والعباسي، حيث ظل المحافظون يعارضون كل جديد ويفضلون العمودي التقليدي عليه، على قاعدة “ما ترك الأول للآخر شيئا”، لا لوضاعة المتأخر وشرف المتقدم وإنما فقط لاختلاف أسلوب المحدث ورؤيته اللتين تخرجان عن مألوفٍ ينبغي الوفاء له قصد المحافظة على عمود الشعر المتوارث. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الشعر ليس جمَلا مذبوحاً يتقاسم لحمَهُ الشعراء وينال منه أقدمهم ما لا يبقي لأحدثهم سوى الكرش والأمعاء والعظام. تصوير دمويّ مثل هذا لا يليق بالشعر بما هو فن من الفنون الجميلة، ويتهيّأ لي أن تخطيط صورته بهذه الأدوات الصلبة والحادة تخطيطا ماديا زمنيا وتجاريا لا يليقُ إلا بجزار يعدّ بضاعته بالسكاكين والسواطير المضرجة للمِعَد النّهمة لا شعراً راقياً معدّاً للمتعة الجمالية، والأنسب في تصوّري الطوباوي هو أن يكون الشعرُ سماء زرقاء ساحرة تحلّق فيها طيور شاعرة لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها، أو أن يكون حقلا خصبا مفتوحا لمخيلة كلّ ذي ذوق يقيم فيه ما يشاء، ولا يسمح بزراعة ما تأمر به الحاجةُ ولا المعدة، حقلا لا تقبل تربتُهُ الغنّاء المتلألئة إلا بزراعة الأحلام أزهارا وورودا وأشجارا لم يزرعْها من قبلُ مزارعٌ ولا بستانيّ.

[2]

واقعة “الفرزدق ومريده” تُسدلُ على الشعر خمسةَ حُجُب كثيفة ترغب في تعميمها تعميماً ماحقاً يكرّس عمود الشعر، ويضمن استمراريته، وهي كما يلي:

أ ـ حجاب الفحولة وهو تكريس لتسلطٍ يغزو الثقافة الحديثة، مثل القديمة، متعاليا بأقنعة متعددة: مرة بمسمى أمير الشعراء، وثانية بمسمى شاعر العرب، وأخرى بمسمى شاعر المليون وكلها مسميات خادعة لا تمسخ الشعر فرسا في حلبة السباق المغبرّة بعيدا عن بساتين الجمال فقط، بل تنفيه وتلغي كل شعر لا يفي باشتراطات الآباء والأجداد.

ب ـ حجاب الزمنية الذي يؤكّدُ وينفي: يكرّس ماضوية تجعل الأقدم دائما أفضل من المحدث الموسوم بالدونية والعجز، وهذا خلل كابحٌ لتطلع الإنسان، يشده إلى زمان ليس زمانه يقرر الأسلافُ ضروراته واشتراطاته بقطع النظر عما يحتاجه الخلف وما يتطلبه زمانُهُ المختلف.

ج ـ حجاب التبخيس وهو خطاب يحكم على كل محدث بالعجز عن التطور، ومعاناة التضاؤل والمحدودية تدريجيا كلما تقدّم إلى الأمام، والتكهن بالمستقبل المجدب الذي ينتظره، وأنه لن تقوم له قائمة بعد الزمن الأول، زمن الخالدين بما هو النموذج المحتذى باعتباره زمن الخلق الحقيقي، وأما الأزمنة التالية فليست سوى أزمنة المحل والتباب والاستنساخ.

د ـ حجاب التشيّؤ الذي حوّل الشعر إلى مجرد شيء مادّي ذي بعد كمّي، يباع ويشترى، ويسمح بتقاسمه بالميزان وتوزيعه بين الناس. الشعر وفق هذا التصوّر وُجِدَ للقيام بمهام اجتماعية وتجارية محدودة، ويبقى الجمال والمتعة والكلمة الخلاقة آخر من يهمه. وهذا يكرّس وظيفية توحي بأن أهم شيء في العمل الشعري هو وظيفته العملية التي تلزمه بتقديم خدمته للجماعة مثلما يقدمها جزار أو نجار أو حداد أو إعلامي أو سياسي أو عسكري أو رجل دين أو غيرهم، فيصبح بموجبها موجها أو مرشدا أو جنديا أو معلما أو كاتبا عموميا (وهنا لا بد أن نتذكر تمييز بارث بين الكاتب والمستكتب)، وتقتصر مهمة خطابه في هذه الحال على التجرّد من إيحائه ورمزيته ويكون خطابا عاريا.

[3]

لنبحث الآن عما ينفي هذه الحجب السوداء. ولعل الحداثة ترغب في التحرّر من إكراهاتها، ومعالجة أعطابها انتصارا لحركية الجميل، وسيادة الخلق، واستمرارية الشعر، وولادته الدائمة جيلا بعد جيل، وهي مطامح تهدف إلى استنبات تحولات نجملها في ما يلي:

أ ـ الانتصار لحرية الإنسان الهش الذي لا يحتمي بسلطة موازية قاهرة هي الجناح الرمزي والثقافي لسلطة دنيوية طاغية لا تريد سلطة أخرى تنازعها إلا إذا استسلمت لطغيانها وسبّحت بحمدها بعيدا عن تهديد الرمزي والمتخيل والهامشي الذي لا يذعن لها.

ب ـ الانتصار لللازمنية إيمانا بأن الجيد الممتع والرديء المقرف لا يخلو منهما زمان، بل إن الحاضر مؤهل لإنتاج الأجود أكثر من غيره إذا هو كدّ واجتهد واستطاع الاستفادة من تراكم العصور السابقة في مجاله. هذا فضلا عن كون الحداثة لا تقتصر على ما يُكتَبُ في الحاضر فقط، بل تزدهر قيَمُها في كل الأزمنة، والحال أن ثمة شعرا عباسيا على سبيل المثال أكثر حداثة من شعر القرن العشرين.

ج ـ الانتصار لشساعة الجميل الذي لا يفنى وتناميه مع مرور الزمن. وبحثه عن أشكال وتقنيات وأجناس فرعية وتنويعات تساهم في إغنائه، والأمثلة كثيرة لا أدل عليها من انبثاق شعر التفعيلة وقصيدة النثر، وتطوير أساليب الاستعارة، والتفتح على الرمز والأسطورة، واستلهام جماليات الفنون الأخرى وخاصة السرد والمسرح والتشكيل والسينما.

د ـ الانتصار لمطلق الشعر باعتباره نداءَ الرّوح للرّوح، وتساميه عما تتطلبه الحاجة المادية. إعادة الاعتبار للشعر هنا تنفي كونه حيوانا مذبوحا في الطريق إلى العدم مباشرةً بعد تلبية حاجة البطن، وتسمو به تراتيلَ تجيب عن أسئلة وجودية بأسئلة أكثر عمقاً تُشعرُ الإنسان بأنه جديرٌ بإنسانيةٍ تهزم جينات توحّشه حين يبدع كلمة تمحو كل فظاعات القبح والشّرّ والعنف التي تشوّه إنسانية الإنسان. وإذا كان الشّعر هو سكن الشاعر الذي لا يستطيع غيرُهُ امتلاكَهُ، فإنّ سلاحه الوحيد لتحقيق هذا المسعى هو الكلمة الشعرية الصادقة التي لا تحوز مشروعيّتها، كما يرى هيدجر، إلا بإعادة تسميّةِ الوجودِ وإعطاءِ الأشياء أسماءً جديدةً غيرَ الأسماء المتعارف عليها(2). وهكذا يصبح هذا البيت نتيجةً لذلك سكناً وجودياً يتحقّقُ بما يُتاحُ للشاعر، على أجنحة اللغة الشعرية، من استكناهٍ للأعماق، وتَرَحُّلٍ في عوالمَ خارقةٍ يعجزُ غيرُهُ عن كشفها. وإذا سلما بهذا التصور، فإن الانتصار لمطلق الشعر هو انتصار لغائية ذاتية تعدّه غاية في ذاته قبل أن يكون غاية خارجَها تخدم قضية كبيرة، أو ترسل رسالة نبيلة. فقد تتنوع ثيمات الشعر وتختلف، لكنه لا يتساهل في صيانة بهائه حتى وهو يقتحم جحيم الحرب والقبح والعنف والكراهية. هكذا، لا يكفي أن يعالج النص قضية كبيرة ليكون شعرا وهو يفتقد ما يشرعن هذه الصفة إبداعيا وخاصة الثقافة الجمالية، واللغة السامية، والرؤيا النافذة لعالم غامض في حاجة إلى إعادة تشكيل خلاقة ترمّم أعطابه.

[4]

واقعةُ “الفرزدق ومريده” إن هي إلا حكاية مروية قد تكون حكاية متخيلة أبدعها الرواة، لكنها، مع ذلك، مؤهّلة للتصديق بقوة ما يحدث في الواقع. أما أنا فلسْتُ شاعراً فحلاً مثل الفرزدق لكيْ ألعبَ دورَ الشيخ، ولا شاعرا مبتدئا يلعبُ دور المريد وهو يتسوّل اعترافا مشفقا من شيخ قد يرسّخ مشروعية شعرية وهمية إنصافاً أو ظلماً وبهتاناً، وما أنا إلا عبدَ الله الضعيف الذي لا يهتمّ بما قد يتبقّى من شعره بعد يوم أو يومين من رحيله، ولا بعد عقد أو عقدين، وذلك إيمانا بأن التاريخ ماكرٌ مكْراً أجهلُ نواياه وخبايا أدغاله ومنعطفاته المظلمة الخطرة، وأعيش، والحمد لله، متخفّفاً من وهم الخلود، مرتاحاً مما يؤرّق المهرولين إلى قصور المستقبل الشامخة، سعيداً باطّراح إغراءاتها، غيرَ مبالٍ بأضواء غرورٍ لا يعنيني في شيء، راضياً بأنْ أفلح هنا والآن في زرع زهرةٍ عطرةٍ واحدةٍ تكون قادرةً على إمتاع عينيّ وعيون الآخرين، وذلك إسْوةً بسدنة الشعر الخالدين في مدينتي الشاعرة الذين أناروا لي معانى الشعر وأنا تلميذ في المرحلة الإعدادية. والحق أنني كنتُ دائما معجباً بكل شاعر يعزف بنبضات قلبه على أوتارٍ من صنع يديه، أيّ شاعرٍ يُحافظ على بصماته صافيةً طاهرةً لم تلطّخها أثار غيره، وقد استطاعت مخيلتي في هذا الأفق الحر أن تروّض الريشة على الشطح أعلى من قبة الشيخ والمريد السامقة، وبعيدا عن كسل أي نفاق واطئ.

[5]

صدفةُ الإنصات لنزار قباني في مكناس ذات خريف سنة 1965 من جهة، ومتعة إنشاد شعراء مكناس آنذاك وخاصة علال الخياري وزين العابدين الإدريسي وبنسالم الدّمناتي وعبد السّلام الزيتوني ومحمّد أجانا وجمال الدّين بنشقرون من جهة ثانية، مكّنتاني من التّمييز مبكّراً بين بنيتين للشّعر مختلفتين، كما سمحتا لي بتأمّل مواضيعَ وأشكالٍ شعريةٍ، بعضُها يُخلصُ للأغراض القديمة، وبعضُها يخونها ويتمرّدُ عليها حتى وهو يخلص للخليل بن أحم، وبعضُها الآخرُ يغامرُ في كتابة نصوص ممتعة رغم أنها تصدم الذوق السّائد من حيث لغتها وبناؤها ورؤيتُها للعالم.

لعلّ ما أبهرني في شعر هؤلاء الماهدين من اختلاف وغرابة وبحث عن أساليب جديدة للتعبير استطاع أنْ يخلخل مفهومي للكتابة، ويرسّخَ لديّ قناعةً بأنّ الشّعرَ لا يُحدُّ بتعريف مأثور كرّستْهُ مقولة “الكلام الموزون المقفّى الدال على معنى”، بل بخيالِهِ وأسلوبِهِ وإيقاعه وإدهاشه، وما يحدثُهُ من أثرٍ جماليّ في متلقّيه يطهّر الروح ويهزّ الجسد ويخضّ المشاعر ما يطرحُهُ من أسئلة ماتعة تهفو إلى الإبحار صوبَ المجهول.

هذا لعمري هو ما جلا لي وأنا تلميذ معنى أن يكونَ الشّعرُ شعراً خارجَ مألوفٍ ماكرٍ لا تزال تكرّسهُ النّصوصُ التي درسْناها واستظهرناها عن ظهر قلب، وأقنعني بكون الشّعر يولَدُ في خيمةٍ مفتوحةٍ على الأمداء الشّاسعة، ويكفّ عن الانحصار في قمقم منقوش، لأن النّسماتِ المنعشة مثلُها مثل الأمواج والبروق لا تلجمُها قيودٌ ولا قوالب. وهو وعي ما فتئتْ تنضجه على نار هادئة قراءاتي للنصوص، وما فتحته نظرية الشعر ونقده وأسلوبيته من مسالك في أدغالها(3).

[6]

لا غروَ أنّ كلّ كاتب يُضمرُ اختياراً غيرَ مُعْلَن للمتلقي الذي يكتب له، قد يوجد بالفعل في الممارسة القرائية، وقد لا يوجد فيكون مجرّد متلق مفترض فقط، كافكا على سبيل المثال ما كان يكتب لقارئ من لحم ودم في زمانه، لكنه بالمقابل كان مستعدا لتخييبِ أفُقِ انتظارِ قراءِ زمانِه. لهذا، فأنا لا أظن أنّ شاعراً كبيراً كمحمد الحلوي كان يمكن أن يستهدفَ متلقيا حداثيا ينتصر للقصيدة التفعيلية أو قصيدة النثر، ولا شاعراً كأنسي الحاج كان يمكن أن يحلُمَ بمتلّقٍ شديدِ التعصّب لعمودِ الشعر. وهذا يعني أن للقارئ الجادّ عدستين شفافتين تتوفّران على ذاكرةٍ قويةٍ راكمتْ حساسياتٍ ومواقفَ وقيماً ثقافيةً وجماليةً يتأثر بها تذوّقُهُ، لا يسلمُ منها اختيارُهُ لما يقرأ، ولا انطباعاتُهُ العابرة حول هذا المقروء أو ذاك، ولا أحكامُهُ النقدية التي تتوّج قراءتَهُ العالمة.

أنا أيضا أكتبُ وأنا أفكر لاشعوريا في قارئ افتراضيّ معيّن، وظللت على وعي تام بأنني لن أُرضيَ كل الأذواق، إيمانا مني بأنّ الكتابة تعني اصطفاءَ قيم جمالية واطّراحَ أخرى، إغراءَ البعض وتنفيرَ البعض الآخر. هذا مع العلم بأن نموذج متلقّيّ الافتراضيّ لم يكن واحدا طوال هذه التجربة التي تمتد خمسين سنة، بالنظر إلى ما عرفَتْهُ من تحوّلات كان كل واحد منها يحتّمُ تغييرَ ملامح متلقي كتابته. وبناء على تخصّصكم ووعيكم الشعري، كان لديّ إحساسٌ منذ بدايةِ هذا المشروع بأنّ حدسي لن يخيب، وأنني عثرتُ على متلقين افتراضين كنتُ أكتبُ وأنا أستحضرُ رغائبَهم في مخيّلتي وأنصتُ لأسئلتهم، لكي أجعلَ هذه الكتابةَ تُرضي توقّعاتِهم، فتطابق انشغالاتي الفنية انشغالاتهم.

[7]

تساءلَ بارث في “لذة النص” كيف يمكن للمرء أن يتلذّذ بلذة محكية وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بقراءة النقد؟. وكان يرى أن (ثمة طريقة واحدة: إنني أحتاج أن أبدّل موقعي، لأنني هنا قارئ من الدرجة الثانية: فعوضا عن أن أكون نجيَّ هذه اللذة النقدية ـ لأن هذه طريقة أكيدة لكي لا أنالها ـ أستطيع أن أجعل من نفسي متلصّصا: فأراقب خفيةً لذة الآخر، وأدخل الانحراف. وسيصبح التفسير حينئذ، وفي نظري، نصا، ووظيفة، ونصا مشقوقا. وإن انحراف الكاتب (…) ليضاعف مرتين أو ثلاثا وإلى ما لا نهاية انحراف الناقد وقارئه)(3).

كم أسعَدُ بهذا التقاسم الذي يبدأ فردياً وينتهى جماعياً بتعدد القراءات… في البداية، تنتشي الكتابةُ في الأعالي فوق الغيوم، قبل أن تتعدّد “الأنا” الكاتبة وتكون هي سيدة الموقف إنْ على مستوى النصّ أو على مستوى الميتالغة. ذلك أنّ التلقّي نفسه لا يسلمُ من هذه المتعة المزدوجة: القراء والنقاد يقرأون النصوص الشعرية ويخوضون في مسح تضاريسها وتشريحها وإعادة تخطيط خرائطها. وأنا أقرأ بجوارحي أعمالهم العميقة وهي تعيدُ رسمَ ملامحي الشعرية من جديد. وفي الحالتين معا، أعني الكتابة والتلقي، تذوبُ “الأنا” في مجرى النهر القُراح المشترك، مُشكّلةً كتابةً على كتابةٍ في عمليةِ تطريس باذخةٍ تستلزمُ القيام بتلقّ مُضاعَفٍ يرتّبُ أوراقه الجديدة، قبل أن تنسحبَ “الأنا” من المشهد وتغمرَهُ “النحن” مبتهجةً بفيضِ تَشَارُكٍ متواطأ عليه تبدعُهُ الكتابةُ والقراءةُ معا.

كان المتنبّي يردّدُ صادقا حين يضيق بأسئلة المعجبين أو الحاسدين: “أينَ ابنُ جنّي فإنه أعرف بشعري مني؟”(4). وحين أستحضر اهتمام قراء شعري ونقاده على قلتهم، لا أملك بعد الاستماع لآرائهم الوجيهة أو قراءة أعمالهم العميقة حول تجربتي المتواضعة، والاستمتاع بدررها، إلا أن أعترف بما اعترفَ به أبو الطيّب لابن جنّي، مؤكّداً لهم كونهم أصبحوا أعرَفَ بشعري منّي، خاصّة أن كلّ واحدٍ منهم يشكّلُ نموذجاً لمتلّقٍ شعريّ نبيه يغوص منقباً عن اللآلئ، ويملأ ما تتركهُ الذات الكاتبة من فراغات وبياضات موحية، ويعرف كيف يولّدُ تآويلَ تكشف عن معانٍ كامنةً تحت حُجُبٍ لا حصر لها، ويملأ ما تتركهُ الذات الكاتبة من فراغات وبياضات موحية، ويخلق عوالمَ باهرةً لا أستغرب أنّ كثيراً منها لم يخطرْ لي على بال، دلالةً قاطعةً على كون شعريةِ القراءةِ لم تكن أقلَّ شأنا من شعرية النصّ.

ليكن بارث مرة أخرى مسك الختام، فقد مات المؤلف في حكمه (بوصفه مؤسسة: واختفى شخصه المدني، والانفعالي، والمكوّن للسيرة. كما أن ملكيته قد انتهت (…) ولم يعد في مقدوره أن يمارس على عمله تلك الأبوة الرائعة التي أخذها على عاتقه كلٌّ من التاريخ الأدبي، والتعليم، والرأي العام). غير أن بارت يستدرك ويؤكد الحاجة إلى بعث الكاتب بشكل من الأشكال، إذ يقول (لكنني في النص لأرغب في المؤلف (…) فأنا محتاج إلى صورته (…) مثلما هو محتاج إلى صورتي(5)، لذا يخيل إلى أننا بعد كل قراءة ممتعة لا نملك معاً، الناقد وأنا، إلا أن نتلذذ بتبادل الصور وفاءً لروح بارث.

………………………………….

هوامش:

(1) القرشي، جمهرة أشعار العرب، أورده عبد الله الغدامي، النقد الثقافي، المركز الثقافي العربي، ط 2، الدار البيضاء 1999، ص 134.

(2) خالد بلقاسم: الصوفية والفراغ ـ الكتابة عند النفري. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 202012، ص 238، 239.

(3) انظر غلاف الأعمال الشعرية غير الكاملة، لعلال الحجام، ج1، منشورات أنفور برينت، فاس 2024

(4) رولان بارث: لذة النص، ترجمة: منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب 1992، ص 43

(5) عبد الإله الصايغ: الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1999، ص 27.

(6) رولان بارث: لذة النص، م س، ص 56

………………………………….

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag