Skip links

( دلالة الشعر الجاهلي على الحياة الدينية ) – قراءة نقدية للرأي الشائع – الكاتب/ حميد بركي .. المغرب

كثيرًا ما ردد بعض الباحثين، كطه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي، الرأي القائل إن الشعر الجاهلي لا يحمل دلالة واضحة على الحياة الدينية للعرب قبل الإسلام، بل ذهب بعضهم إلى أن هذا الشعر لا يعكس عاطفة دينية تُذكر، بل انصرف إلى وصف الفروسية، والغزل، والصحراء، والطبيعة، دون أن يتطرق إلى العقيدة، أو الروحانيات، غير أن التأمل في المرويات الشعرية، والشواهد التي وردت في مصادر كـ الأصنام لابن الكلبي، وبلوغ الأرب للألوسي، يُظهر بجلاء عكس هذا الرأي، إذ إن الشعر الجاهلي، وإن لم يكن دينيًا بالمعنى التعبدي التوحيدي، فإنه وثيقة حية تعكس مظاهر العقيدة الوثنية في ذلك العصر، بل وتدل على أن الدين، وإن كان وثنيًا، كان جزءًا لا يتجزأ من وجدان الشاعر ووعيه.
أولًا: الشعر الجاهلي يحفظ أسماء الآلهة ويعكس طقوس العرب الوثنية.
تزخر الأشعار الجاهلية بذكر أسماء الأصنام التي كانت تُعبد في الجاهلية، وتُظهر تعلق العرب بها، أو رفض بعضهم لها، كزيد بن عمرو بن نفيل، فقد قال هذا الأخير في هجاء الأصنام:
ولا هُبَلًا أزور وكان ربًّا لنا .. في الدهر إذ حلمي صغيــــر
ففي هذا البيت إشارة صريحة إلى هُبل، أشهر أصنام قريش، وتعبير عن القطيعة الشعورية مع هذه العبادة، في فترةٍ لم يكن الإسلام قد بزغ فيها بعد.
ونجد ذكر اللات، والعزى، ومناة، وودّ، ويغوث، وإساف ونائلة، وذا الخلصة، وعوض، وسعير، و الأقيصر، ونهم، وغيرها، في عشرات الأشعار التي وثّقت بها الحياة الدينية للشعراء الجاهليين. فمثلًا، يقول عبد العزى المزني حالفًا:
إني حلفت يمين صدق بـرة .. بمناة عند محل آل الخزرج
ويحلف أوس بن حجر صراحة بالآلهة:
وباللات والعزى ومن دان دينها .. وبالــله إن الله منهـــــن أكبــــــر
أما عمرو بن الجعيد فيتبرأ من عبادة اللات:
فإني وتركي وصل كأس كالذي .. تبرأ من لات وكان يدينهـــــــــا
وهذه أبيات لا يمكن أن تُفهم إلا في سياق ثقافي ديني واضح، وهي كلمات ذات دلالات على تمسك، أو رفض، أو حيرة روحية.
ثانيًا – الطقوس الدينية حاضرة في الشعر الجاهلي:
كما تُظهر الأشعار طقوس الطواف بالأنصاب، والنحر عند الأصنام، والاستقسام بالأزلام، والاعتكاف حول المعابد الوثنية.
يقول أبو خراش الهذلي، وهو يهجو رجلًا:

رأى قذعًا في عينها إذ يسوقهـــــــا .. إلى غبغب العزى فوضع في القسم

فهذا البيت يحكي مشهدًا طقوسيًا يتمثل في تقديم النساء قربانًا أو نذرًا لصنم العزى، وهو ما يدل على وجود شعائر راسخة.

ثانيا – الشعر الجاهلي ينقل الحيرة الروحية والبحث عن الإله الواحد:
رغم شيوع الوثنية، لم يكن الضمير العربي الجاهلي غافلًا عن التساؤل حول وجود إله واحد. ففي شعر زيد بن عمرو بن نفيل نلمس هذا القلق الوجودي:
أربًّا واحــــدًا أم ألــــف ربٍّ .. أدينُ إذا تقسمت الأمــــــور؟
عجبتُ وفي الليالي معجبات .. وفي الأيام يعرفها البصيـــر
بأن الله قد أفـنى رجــــــــالًا .. كثيـرًا كان شأنهم الفجـــــور
هذه الأبيات ليست مجرد تأملات شعرية، بل صيحات فلسفية روحية تنزع نحو التوحيد، وتدل على أن الشعر الجاهلي كان أحد الأوعية التي عبرت عن الحراك الديني لعصره.
ثالثا – استخدام الحلف بالأصنام دليل على الاعتقاد الراسخ بها:
الحلف من أعظم الدلائل على صدق العقيدة، والشعراء الجاهليون كثيرًا ما أقسموا بالأصنام. فضرار بن الخطاب الفهري يقول:
وفرت ثقيف إلى لاتها .. بمنقلب الخائب الخاسر
ويقول خزاعي بن عبد نهم:
ذهبت إلى نهم لأذبح عــنــده .. عتيرة نسكٍ كالذي كنت أفعل
وهذه الأبيات ليست فقط معلومات، بل انعكاس لعقيدة شعائرية فاعلة، وتصور كامل للدين الوثني.
رابعا – الدهريون وعبّاد النجوم في الشعر الجاهلي:
حتى الطوائف الدهرية وعبّاد الكواكب تركوا بصماتهم في الشعر الجاهلي. يقول أحد الدهريين:
منع البقــاء تقلــــب الشمــــس .. وطلوعها من حيث لا تمســي
تجري على كبد السماء كمــــا .. يجري حمام الموت في النفس
وهنا تعبير عن الاعتقاد بسلطة الدهر والزمن والمظاهر الكونية، وهو نوع من “الإلحاد الدهري” لكنه لا يخلو من بعد ديني في حقيقته
ومن يتضح لنا على أن استقراء نصوص الشعر الجاهلي، وتحليلها في ضوء السياق الاجتماعي والثقافي، يبرهن بوضوح على أن هذا الشعر لم يكن خاليًا من عاطفة دينية، وهو حافلٌ بأسماء الآلهة، ومشبعٌ بطقوسهم، مشحونٌ بالحلف والتقديس والرفض والتساؤل، لقد عبّر الشعراء الجاهليون عن عقيدتهم، حتى وإن لم تكن موحدة، وواجه بعضهم التيه الروحي بالسؤال والتأمل، وكان الشعر هو وسيلتهم إلى ذلك.
وعليه، فإن القول بانعدام دلالة الشعر الجاهلي على الحياة الدينية هو تبسيط مخل، لا يصمد أمام التحليل النصي والسياقي، كما يعتبر جهلا بما تقدم من أنبياء ورسل قبل الإسلام، وعليه بني الشعر الجاهلي، بما فيه من تنوع وتناقض، إذ إنه الوثيقة الأصدق لحياة العرب الدينية قبل الإسلام.
كما أن الديانة السماوية حاضرة كمفهوم في الشعر العربي، والنصراني قبل الإسلام يعكس علاقة الروح بالطهر، والتقرب إلى الله تعالى بأشكال متنوعة، ومن بينها السجود، والركوع والتسبيح، تكرر ذكر الصلاة في شعر النصارى قبل عهد الإسلام، وخاصة في وصفهم للممارسات الدينية والتقديسية التي تمارس في معابدهم وكنائسهم، حيث الصلاة في هذا السياق لم تكن عبارة عن عبادة فقط، بل كانت وسيلة للتقرب إلى الله، تجسد طهارة الروح وصلاح الجسد، ومن هنا يمكننا أن نرى هذه المفاهيم في عدة نماذج شعرية، أبرزها الأبيات التي ذكر فيها الأعشى قيس، واصفًا حالة من التقديس والعبادة، حيث نقل صورة من الخمر، واصفًا حاله إذا “صلّى عليها:

لها حارسٌ لا يبرحُ الدهرَ بيتها – وإنْ ذُبِحَتْ {صلّى عليها}
وزَمزَما بِبابلَ لمْ تُعْصَرْ
وجاء في الأبيات صورة خمر تُسقى وتقدس كما يتم تقديس الطقوس في الكنيسة، في نوع من المزاوجة بين الرمزية والعبادة في هذه الصورة الشعرية، كما نجد في شعر أيمن بن خزيم في وصف خمر جرجان، ويظهر فيه أيضاً ذكر الصلاة إلى الله في سياق تقديسي:
وصَهْبَاءَ جُرْجانِيَّةٍ لَمْ يَطُـــــــــفْ بها – حَنيفٌ ولَمْ تَنْغَرْ بها سَاعَـــةً قِــــــدْر
ولَم يَشْهَدِ القَشُّ المُهَينِمُ نارَهـــــــــــا – طَرُوقًا ولا {صَلَّى عَلَى} طَبْخِها حَبْرُ
في هذا السياق، يظهر الشعر إشارة إلى الصلاة التي لا تقتصر على الطقوس التعبدية بل تمتد إلى الطقوس اليومية والإنسانية التي تحاكي تفاعل الفرد مع المجتمع والنظام الكوني. الكلمات مثل “صلى على” و”طاف” تشير إلى مفهوم أوسع للصلاة بما فيها التقديس والعبادة.
ومن ضمن القصائد التي تبين لنا دور الصلاة كعبادة توحيدية قبل الإسلام، نجد ورقة بن نوفل، القس النصراني المعروف الذي كان يعبد الله في الكنيسة. في قصيدته يتحدث عن صلاته في البِيعة (الكنيسة) حيث قال:
أدِينُ لربٍّ يستجيــــبُ ولا أرى – أدين لمَنْ لا يسمع الدهر واعيـا
أقول إذا صَلّيتُ في كلّ بِيعــــةٍ – تباركتَ قد أكثرتُ باٌسمِكَ داعيا
وهنا يظهر ورقة بن نوفل في هذه الأبيات متضرعًا إلى الله في عبادته، وأيضًا في سعيه إلى الرحمة والمغفرة. هذا النص يعكس حالة من التقديس والتضرع التي يشترك فيها العديد من المصلين في مختلف الأديان، حيث يشير إلى حالة من التوجه الكامل إلى الله في الصلاة.
أما زيد بن عمرو بن نفيل، الذي كان من أشهر الموحِّدين قبل الإسلام، فقد ذكر في إحدى قصائده أنه يعبد الله طلبًا للمغفرة، قائلاً:
أربًّا واحدًا أم ألـــفَ ربٍّ – أدِينُ إذا تقسّمتِ الأمـــورُ
ولكنْ أعبُدُ الرَّحمانَ ربّي – ليغفرَ ذنبيَ الرَّبُّ الغفـورُ
وهنا يظهر زيد بن عمرو إيمانًا راسخًا في وحدانية الله تعالى، حيث يعبر عن العبادة والتوحيد من خلال الصلاة، ما يعكس نية صافية تهدف إلى الصفاء الروحي والبحث عن المغفرة الإلهية.
وتتضح لنا من هذه الأبيات الشعرية التي تم ذكرها أن الصلاة قبل الإسلام كانت تجسد علاقة الإنسان بالله، مهما كانت ديانته أو ثقافته. فالصلاة في الشعر النصراني لم تكن مجرد طقوس دينية بل كانت تعبيرًا عن الحاجة المستمرة إلى التقرب من الله وطلب النعمة والمغفرة. كان الشعراء يصفون الصلاة بوصفها وسيلة لتحقيق النقاء الروحي، وهذا يعكس تطور الفكرة الدينية قبل ظهور الإسلام
وفي ذات السياق، نجد أن الفكرة الرئيسية التي تحكم هذه الأبيات الشعرية هي أن الصلاة في جميع الثقافات تظل متجهة إلى الأعلى، إلى الله، كما يظهر في وصف الملائكة في شعر أمية بن أبي الصلت، حيث قال:
فنِعْمَ العِبَادُ المصطفَونَ لأمـــرِهِ – ومِنْ دُونِهِمْ جُندٌ كثيفٌ مُجــــنّـَدُ
ملائكةٌ لا يفتُــــرون عبـــــــادةً – كروبيّةٌ منهمْ ركوعٌ وسُجَّـــــــد
فساجدهم لا يرفع الدهر رأســه – يعظــــم ربا فوقـــــه ويمجـــــد
وراكعهم يحنو له الظهر خاشعا – يردد آلاء الإلــــــه ويحــمـــــد
هذه الأبيات تعكس صورة من الخضوع الكامل لله، حيث يقف الملائكة في سجود وركوع مستمرين دون انقطاع، وهذا يشير إلى منزلة الصلاة في الحياة الروحية للإنسان.
الصلاة كما صورها هؤلاء الشعراء تعني تقربًا دائمًا من الله، وهي عملية تستهدف سمو الروح البشرية، وتستمر في تشكل الوعي الديني لدى الأفراد في مختلف العصور، وهكذا نرى أن الشعر قبل الإسلام كان يعبر عن مفهوم الصلاة كوسيلة للتقديس والتطهر، وهذا الفهم لم يقتصر على مرحلة ما قبل الإسلام فحسب، بل كان يعد حجر الأساس لفهم الصلاة في الدين الإسلامي فيما بعد.
ويكفي تواجد الكعبة المشرفة كوازع علائقي بين الإنسان وما يربطه بالله سبحانه وتعالى وهو تأثير بنيت عليه حكمة الشعر وقيمة تعليق القصيدة عليها.
لم تكن الكعبة في الوعي الجاهلي كما يظنه بعضهم عبارة عن بناء حجريّ تنسج حوله الطقوس وتُمارَس عنده الشعائر فقط ، فقد كانت رمزًا أعلى، ومركزًا للوجود العربيّ، ومهوى أفئدة القبائل من كل فجّ عميق. إنها بيت الله في الأرض، وبيت العرب في الذاكرة، تتقاطر إليها الوفود لا فقط للحجّ، بل لتُعلن حضورها في سوق العرب الكبرى، سوق اللغة والبلاغة، حيث لا تُقاس الأمم بعدد الجنود ولكن بعدد القصائد التي تُعلق على جدرانها.
لقد أدرك شعراء الجاهلية، على نحو فطريّ، أن للكعبة مهابةً لا تُضاهى، وأنها القلب الذي يخفق لكل عربيّ مهما تباعدت دياره. وفي ظل هذا الإدراك، نشأت علاقة وجدانية عميقة بين الكلمة الشاعرة وبين قدسية المكان، حتى أصبح الشعر، وهو التعبير الأصفى عن الذات والقبيلة، يرتقي إلى مستوى الطقوس حين يُعلّق على أستارها. فلم يكن التعليق فعلًا عابرًا، بل طقسًا رمزيًا يُجسّد حضور القصيدة كأثر خالد، يليق بقداسة الكعبة، ويستمد منها شرعية الوجود والتأثير.
حين كان الشاعر يُعلق قصيدته على جدار الكعبة، لم يكن يبتغي الذيوع دون السعي وراء أن يُخلّد فكرته، حكمته، مجده، على جدار الزمن العربيّ. إن ذلك التعليق لم يكن إلا نوعًا من تثبيت الذاكرة الجمعية، ليظل الشاعر وقصيدته في وجدان الأمة، كأنما يُحاور بذلك الأجداد والأنبياء، ويُناجي السماء بلغته، ويضع من شعره حجرًا في بناء الهوية.
الكعبة، إذًا، لم تكن معبدًا فقط، بل منبرًا صامتًا يقول بقدسية الشعر. وفي حضرة هذا الصمت، نطق الشعراء بأعذب ما في لغتهم، صاغوا المعلقات كما تُصاغ التمائم، ونسجوا من الكلمات وشاحًا للمجد لا يبلى، ولعل في هذه الرغبة الجامحة لتعليق القصائد على الكعبة، إشارة بليغة إلى منزلة الشعر في المجتمع الجاهلي، حيث لا يُكرّم الشاعر بوسام، بل تُكرّم قصيدته بأن تُجاور بيت الله، فيصبح المعنى مقيمًا بين القداسة والبلاغة.
ولقد سُمّيت تلك القصائد بـ”المعلقات” لا لأنّها كُتبت وعلِّقت فحسب، بل لأنها تعلقت في القلب والوجدان، وأصبحت دروسًا في الحكمة، وأمثولة في الفخر، وصورة حيّة عن الإنسان العربيّ في صراعه مع الوجود، والزمن، والموت.
لقد تعلّق بها الناس كما تعلّقوا بالكعبة، لأنها مثلها، كانت قبلةً تُهتدى إليها في ضباب الجهل والتيه الروحي.
إن هذه العلاقة بين الشعر والكعبة لم تكن علاقة شكلية، بل كانت امتدادًا لمفهوم عميق يرى في الكلمة العربية جوهرًا إلهيًّا، نورًا يُضيء الطريق، ورسالةً تتجاوز حدود الزمن. فالحكمة التي يحملها الشعر لم تكن ترفًا، بل كانت تشريعًا اجتماعيًا غير مكتوب، تؤثر في سلوك الناس، وتُعلّمهم القيم، وتُرسي قواعد الكرامة والشرف.
ولهذا، كان الشاعر في الجاهلية نبيّ قبيلته، وصوتها الذي ينطق عنها في المجالس والمواسم، وكان تعليقه لقصيدته على الكعبة إعلانًا صريحًا عن أن الكلمة تملك من القوة ما يعادل السيف، بل ما يفوقه، إن ما يُعلق على الكعبة، يُصبح أقرب إلى الوحي الشعري، لا كتعبير ذاتي فقط، وهو خطاب ينطوي على مسؤولية فكرية وثقافية، ويعكس حكمة قوم، وموقف أمة.
الكعبة، إذن، لم تكن حجرًا يلتف حوله الناس، بل كانت قلبًا نابضًا بمعاني المجد، وصدى يتردد فيه الشعر كما تتردد الدعوات، وهكذا، تحولت القصيدة المعلّقة إلى نُصبٍ جماليّ، يتجاور فيه الفنّ مع الإيمان، ويكتب فيه الشعر تاريخ العرب بالحبر المقدّس للغة.
لقد كانت الكعبة ملاذًا للجسد، كما كانت القصيدة ملاذًا للروح، وفي هذا التزاوج بين المكان والمقال، بين الحجر والبيان، ولِدت مدرسة كبرى في الشعر العربيّ، ظلت إلى اليوم تُلهم الأجيال وتُغذي العقل العربيّ بالحكمة والسمو .

………………………………

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag