Skip links

تبدلات الحالة الشعورية في أغنية (يمه القمر عالباب) الشاعرة/ أحلام بناوي ..سوريا

الزمن الذي توقف عند الباب.

لم أكن أتوقع أن الأغنية التي تُوفّيت صاحِبتُها قبل ولادتي بسنوات سوف تكون يوماً ما محطَّ اهتمامي لدرجة أن أكتب عنها مقالاً.

أغنية (يمّه القمر عالباب) التي غنتها الفنانة فايزة أحمد وكتبها مرسي جميل عزيز، فيها من الأمور ما يستحق الوقوف عنده بعين الناقد الذي يقرأ خفايا السطور ويستكشف مكامن الجمال والعيب.

الفن مرآة المجتمع ويصلح أن يستفاد منه في علم الاجتماع، واستكشاف مراحل تطور المجتمع من خلاله.

وأكبر مثال على ذلك هو هذه الأغنية التي تم عرضهاعام 1957 ضمن فيلم تمر حنة،
ولا غرابة أن الأغنية تم منعها في كل من مصر والأردن قبل ٦٥ عاماً لأن الرمزية في الأغنية كفيلة بتأويل معناها كلٌّ على هواه، وسواء اتفقنا معهم أم اختلفنا فإن الحب موجود،  وإن منع الكلام في الحب لا ينفي كونه موجوداً في الواقع.

وإذا أردنا أن نكون منصفين فقد يكون مرور الوقت الطويل وتغير المجتمع هو الذي جعلنا نرى غير ما رأوه.

وبالتمعّن في كلمات الأغنية أو القصيدة التي أصبحت أغنية نجد عدة محاور تعكس واقع البيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد في تلك الحقبة من الزمن، كما تعكس المستوى الفني والأدبي المتقدم آنذاك، بما فيه من الرمزية الموظفة بعناية بالغة وبشكل مدروس، والإيحاءات الواضحة المستترة بآن معاً، وبأسلوب شفيف بالغ الرقة. إلى جانب الدرامية العالية المقنعة في كل مشهد من القصيدة، ولغة الحوار المنسجمة جداً مع تطورات الأحداث فيها، وهو الجانب الذي سنتناوله في هذا المقال. لتأتي الموسيقا أخيراً كي تخدم كل ما سبق بحرفية  وذكاء عالٍ.

ومن مواطن الدهشة في كلمات الأغنية أن عبارة واحدة (ولا أرد الباب)، بملحقاتها، حملت في كل مقطع وردت فيه معنى مختلفاً عنه في المقطع الآخر.

تدرجت لغة الحوار في كل مقطع من السؤال وطلب المشورة، إلى الشكوى، ثم الترجّي، لتنتهي بالتهديد المبطن في آخر القصيدة (الأغنية)، وباستخدام ذات العبارة متعددة المعاني.

 التسلسل الدرامي ولغة الحوار في الأغنية:
العادات والتقاليد وقيم المجتمع:

في الزمن الذي كتبت فيه كلمات هذه الأغنية كان الحب بحد ذاته عيباً كبيراً لذلك بدأت الأغنية بكلام مهذب وخجول من الفتاة لأمها، عندما طرق الحب بابها، هل تقبل أم ترفض؟!، وكان كلامها فيه من الاستعطاف ما فيه وذلك لأن الحب في الخمسينات بمثابة فضيحة إلا أنه رغم ذلك كله كان موجودا في كل بيت وكانت الأمهات في الغالب هن المطبخ السري الذي يعرف ويقرر ويسمح أويمنع، وهن في الوقت نفسه الوجه الأول لسلطة المجتمع، فيتم اللجوء إليهنَّ

للسؤال وطلب النصيحة:

( يمَّه،، أرُدّ الباب؟.. ولَّا أنادي له؟ )
 حيث بدأ الحوار بحياء، وخجل، عندما طرق الحب بابها وهي غير واثقة بعدُ من بَيَاضِ نواياه.
إلاّ أنه (دخل البيوت من أبوابها) لذلك تكرر لفظ الباب في سائر الأغنية. في إلماح إلى الالتزام العقائدي السائد آنذاك.

وهنا يطول الحديث عن الرمزية والإيحاءات الدلالية للمفردات التي استخدمها الكاتب في كل مقاطع الأغنية، ولن نخوض فيه، إلا أننا يجب أن ننوه أنه تكاد لا توجد كلمة واحدة في النص أريدت على حقيقتها، أو كانت مقصودة لذاتها، وإنما جميعها استعارات وكنايات ورموز أريد منها غير معناها فلا القمر المراد هو القمر ولا الباب هو الباب ولا القناديل ، ولا العطش والسقيا، أو المواويل. والقلة وغيرها .. كل كلمة في القصيدة حملت معنى مغايراً لمعناها الحقيقي.وهذا مكمن آخر من مكامن الجمال في النص.

 محاولات الإقناع:
انتقلت لغة الحوار بعد ذلك من السؤال والمشورة إلى محاولات ذكية وخجولة من البنت لإقناع الأم، لتلعب على وتر الحنان عندها فتقول:

(أسقيه ينوبنا ثواب؟،، وَلَّا أردّ الباب؟!)

الشكوى:
بعد أن بدأت الفتاة تتعلق بهذا القمر (الشاب)، وتعيش الصراع بين مشاعرها وبين قانون العرف والعادات، والمجتمع، راحت تبث شكواها لوالدتها بشكل أكثر صراحة من قبل، وتشكو حيرتها عندما سمعت كلامه المعسول فتقول:

(لا قدرت أردّ جواب،، ولَا أردّ الباب،، يمَّه)

الترجي:
وكلما استحكم الحب في قلبها كلما تغيرت لهجة الحوار وتبدّلتْ، وكأن الكاتب أراد سرد تحولات نفسية تستغرق شهور في أغنية لا تتجاوز مدتّها دقائق، وهنا بدأت الفتاة بالترجّي لوالدتها لأنها تدرك أن الأم قادرة على إقناع الباقين.

( يَمَّه، اعملي معروف،، قومي افتحي له الباب )

التهديد المُبَطَّن:
نجد أن لغة الحوار بدأت ترتفع وتصبح أقوى وذلك له سبب اجتماعي وهو أن الشاب (القمر) الآن جاء خاطباً، يعني طالباً الحلال، (أفصح عن نيته) بدليل قولها:

(خبَّط وقال يا احباب .. ردّوا على الخُطّاب)

فأصبحت الفتاة في موقف قوة لأن العادات والعرف والمجتمع تختلف في نظرتها بين الحب، وبين دخول البيت من بابه (الارتباط، والقصد الشريف).
وعندما ضمنت أن قصده شريف، وهذا ما يتوافق مع المجتمع، ارتفعت جرأتها أكثر

(معدش فيها كسوف .. يمّه اعملي معروف)

وهذا يدل على إدراكها أن كل علاقة في غير الإطار الشرعي الصحيح هي علاقة خاطئة تستدعي (الكسوف) والخجل.
بدليل أنه عندما أفصح عن القصد الحلال ارتفعت لغة الحوار لتبلغ درجة التهديد الناعم الخفي المُبَطَّنْ للأم فتقول بصيغة الأمر بالتَّحبُّبْ:

(قومي افتحي له الباب،، ولَّا أنا اجي له ،، انا اجي له ،، يمَّه) 
بمعنى أنا أذهب إليه.

هل كان الباب مغلقا؟

وهنا توجد مفارقة لطيفة وهي أن الباب (بالمعنى الحرفي للباب) كان موارباً طوال الوقت، ولم يكن مغلقاً في كل مقاطع الأغنية إلا أن أحداً من القمر (الشاب) أو الفتاة لم يتجرأ على تجاوزه، في التزام ووعي منهما بأعراف المجتمع، وكان الأمر دائما مُحالاً إلى الأهل (الأم)، وبالتالي إلى المجتمع.

بدليل سؤالها في كل مرة ( أردّ الباب؟ وللا أنادي له؟)

وفيها إلماح آخر بأنه لن يدخل إلا إن سمحت له (البنت) بالدخول (وللا أنادي له؟) وهذه عودة أخرى إلى المجتمع ومفاهيم المجتمع، وما هو سائد، ثم إن البنت أيضاً لم تتجاوز مجتمعها بل أحالت الأمر من جديد إلى الأم، وهنا إلماح ثالث إلى دور الأم ليس في الأغنية بل في المجتمع.

ومن الجدير بالذكر أن إعادة إحياء هذه الأغنية من قبل الفنانة السعودية الرائعة زينة عماد عام ٢٠٢٣ كانت له أصداء واسعة وإقبال جماهيري ملفت رغم أن الزمن قد تغيّر كثيراً، والذوق العام أيضاً تغيّر، وهذا يدل على  أن الجمال الخالص كالذهب الخالص يحتفظ بقيمته في كل وقت.

نص الأغنية كاملاً
يَمَّه القمر على الباب  نَوَّر قناديله
يمَّه أردّ الباب؟   ولا أنادي له
يمَّه يمّه
يمّه القمر سهران
مسكين بقاله زمان
عينه على بيتنا
باين عليه عطشان
وحدّ من الجيران
وصف له قُلّتنا
أسقيه ينوبنا ثواب؟
ولا أردّ الباب ؟
يّمه يمّه
بابص من الشباك
لمحته جاي هناك
في طلعته الحلوة
نوّر عليّا وقال
فى عنيّا كام موال
وخدت كام غنوة
لا قدرت أردّ جواب
ولا أردّ الباب
يمّه يمه
يمّه القمر على الباب
خبَّط  وقال يا حباب
ردّوا على الخُطّاب
ماعدش فيها كسوف
يمَّه اعملي معروف
قومي افتحي له الباب
قومي افتحي له الباب
ولا أنا جيله انا اجي له
يَّمه

………………………

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag