كان ومايزال الغزل مادة دسمة تحفز الشعراء في كل زمان ومكان على إيجاد دلالات ومعان مبتكرة وتفتح شهية النقاد والقراء لاستكشاف مكامن التفرد والدهشة فيها. وعلى اختلاف البيئات والثقافات فقد يبالغ البعض في تناول موضوع الغزل من جانب (الهو) الذي هو مخزن الرغبات والغرائز والدوافع المكبوتة لينسج منها قصائد قد تتجاوز أحياناً الخط الأحمر ما يجعلها قصيدة غير آمنة بالنسبة للبعض. في حين استطاعت القصيدة الخليجية عموماً والإماراتية بشكل خاص أن تحافظ على عذرية الغزل وحيائه لتتمكن بذلك من مخاطبة (الأنا العليا) والدخول لكل بيت فتساهم في خلق جو من المحبة واللطف والسمو بالخيال. فعندما نستمع للغزل في الشعر الإماراتي سوف يحملنا مباشرة إلى أيام البراءة الأولى وزمن الطفولة والمراهقة، زمن الحب اللامشروط واللاغائي، وستجد مصطلحات الغزل تتعامل مع القيم المثلى للحب ومع فطرة الإنسان التي فطر عليها، ولا تجد في الغزل الإماراتي الشعري عبارات أو إيحاءات فاضحة أو حتى جريئة، الأمر الذي قد يحلق بك إلى سماء تجليات الحب وصوفيته مما يعكس ثقافة المجتمع وضوابطه وأخلاقياته، كما يعكس بساطة ونقاء هذا المجتمع وقدرته على استلهام الحب في أنقى وأبسط مكوناته. وفي الغالب تجده يتناول وصف عيني المحبوبة أو نظرتها أو طرف شالها ولا يتعداه، بل إنه يظهر الغيرة العربية والحرص على المحبوب.
وهاهو الشاعر يعقوب الشامسي يتغنى بجمال المرأة الإماراتية فيقول:
من يقول الحسن وافد واجنبي؟!
أشهد انه ما ملك ذوق وخيال
والشموس اللي تفيّت بالعِبِي
فاتنات الحسن ربات الجمال
يأسرنْ بعيونهن قبل السّبي
في سهمن فتنة وْذبح الرجال
في حين يصف الشاعر مصبح بن علي الكعبي أهداب المحبوب وحسنه اليوسفيّ في تناص جميل مع القرآن الكريم فيقول:
يوم هذي سَلّة اهدابكْ
وش بقى من سحر هاروتِ
اعتنى بكْ ربّك وجابكْ
يوسفيّ الوصف منعوتِ.
بينما يقول عبد الله بن ذبيان:
ورد جوري فوع وجناتك
والزمرّد فيك خصيته
والمحاسن من تحياتك
رد قلبي يوم شليته
ما خلجْ مثلك .. وشرواتك
في (الخليج) ولا بعد ريته
وفي مكان آخر نجد الشاعر أحمد محمد الحمادي يرتقي بالضمة لتكون ضمة القلب والعين فيقول في أبيات مختارة من قصيدة (القلب نصفين) :
مذبوح في سيفٍ .. لا والله بحرفين
حب سيلٍ جارفٍ صعب محد يردّه
ضمّيته بقلبي وبمقلة العين
وقلّدته من قصايدي عقود عدّه.
في حين يتغزل الشاعر علي بن رحمة الشامسي بلغة العيون فيقول:
تكلمني عيونك بالإشارة
وانا عيني ترد الشان فيكم
انا عيني لكم تحت الإمارة
وانا قلبي رهينٍ في يديكم
ولا مرة وصلتونا بزيارة
مضت الايام واحنا نرتييكم.
وهذه الأخلاقيات في الشعر الإماراتي تعيدنا إلى زمن الحب العذري وقصائده الشهيرة لتقدح في أذهاننا تساؤلاً مفادُه الآتي:
كيف استطاع الشاعر الإماراتي أن يحافظ على تقاليده وأخلاقيات مجتمعه حتى في الغزل رغم الانفتاح الثقافي الكبير والتنوع المجتمعي الذي تشهده البيئة الإماراتية ؟ ورغم قدرة الإمارات على مواكبة الآخر وأحيانا التفوق عليه في شتى المجالات. لدرجة أن القصيدة الإماراتية تعتبر قصيدة آمنة لكل الأجيال والأعمار يمكنها دخول كل بيت دون الحاجة إلى رقابة فهي تلزم نفسها تلقائياً بمعايير الجمال وضوابط الأخلاق وهذه العفة لا تقف عند حدود الشعر والأدب بل تمتد لتشمل الإعلام والدراما ولوحات الفنانين وغيرها من مفاصل الحياة الإماراتية.
يقول الشاعر علي بن سالم الكعبي واصفاً وجه المحبوب:
انت روض القلب وبروقه
وانت أول وآخر اوراقي
ما بعدك أوصاف مخلوقة
ولا قبلك اهتزت اشواقي
ولا مثل هالوجه وشروقه
لأجل احبّه لآخر ارماقي.
وسواء كان هذا الأمر مبرمجاً بشكل غير مباشر بحكم العادات والتقاليد أم تلقائياً فإنه أمرٌ محبب يضيف قيمة للأدب ويضعه في مساره الصحيح وهو الارتقاء بالمجتمع وملامسة الأنا العليا فيه.
………………………