
فتاة في عمر الزهور تجلس في غرفتها، مستلقية على سريرها لكي ترتاح بعد أن أنهت من أعمالها المنزلية. ما أن مرت نصف ساعة وإذ بها تنهض وتذهب للجلوس على الكرسي فوق طاولة مكتب غرفتها وتأخذ مذكرتها لكي تكتب عليها كالعادة. كانت مذكرتها بالنسبة لها الملجاء الوحيد الذي تستطيع أن تشتكي و تفضفض لها دون أن تشعر بالحرج. وكانت تحتويها وتخفف من الحمل الذي كانت تكتمه الفتاة بداخلها. بدأت في الكتابة عن ما حدث لها خلال يومها واحزنها. وبينما هي تكتب وتشكي له بما في داخلها، وإذا بباب غرفتها ينفتح تلقائياً، باعثاً ضوءاً ذهبياً دون تواجد أحد خلفه. ولكنه لم ينفتح إلى منزلها، إنما إلى عالم آخر. إذ بها تلتفت غاضبة، تؤد القول من الذي فتح الباب. ولكنها تفاجأت بعدم وجود أحد خلف الباب، مما أثار غرابة الفتاة. فتنهض مستعجلة، ينتابها خوف وفضول تود معرفة من الذي فتح الباب وما مصدر ذلك الضوء الذهبي. وبينما كانت تقترب من الباب، تلاحظ بأن ذلك الضوء كان يتحرك وكأنه يمشي إليها. كانت مرتعبة، ولكن فضولها يريد معرفة ذلك الشيء. ما هي إلا بضع لحظات، وإذ بذلك الضوء يدخل غرفتها، تاركاً الباب مفتوحاً خلفه. فتوقفت الفتاة، وأخذت نفساً عميقاً، وبدأت تسأل ذلك الضوء الذهبي الذي تمثل ك جسد الإنسان: من أنت؟ فيقول لها: اهدئي وخذي نفساً عميقاً واطمئني، أنا لن اؤذيك . تعالي و أجلسي على كرسيك. بعد أن قال لها هذا الكلام، اطمأنت الفتاة و هدأت، وجلست على كرسيها وقامت بتكرار السؤال: من أنت؟ فيجيبها: أنا ذكريات الماضي. فتقول له: من أين أتيت؟ فيرد عليها: ألم تكوني تشعري بشيء غريب في كل مرة كنتي تمسكي مذكرتك فيها؟ فترد بلا، ولكنني كنت أظنه شعوراً طبيعياً بسبب مشاعري. فيرد عليها: نعم، هو شعور طبيعي، ولكنك التي لطالما استدعيتني في كل مرة تمسكين مذكرتك و تبدئين في الكتابة. فتقول له: ولماذا أتيت؟ فيجلس بجوارها ويضع يده على كتفها ويقول لها مشيراً إلى مذكرتها و معاتباً: ألا تخجلي من نفسك؟ فتقول: أخجل من ماذا؟ فيقول: إلا تخجلي من أنك لازلت تكتبين عن الماضي والحاضر وفي هذا العمر الذي من المفترض أن تبدئي فيه بالكتابة عن المستقبل وكيفية التعامل معه فترد عليه وتطأطئ رأسها إلى الأسفل وعيناها تلمعان بالدمع وكأنهما لؤلؤتان تبرقان: كيف أكتب عن المستقبل والماضي مهتري وخراب؟ كيف أكتب عنه و حاضري معدوم الأمان؟ فيمسكها بكلتا يديها ويرفع رأسها ويقول لها: دعي الألم يجد طريقة للخروج. كفاك مقاومة. وإذ بها تحتكم للأمر الواقع وتسمح لدموعها بالخروج. وإذ بدمعها يجري وكأنه موج هائج يزاور شواطئ خديها التي كانت جافة من شدة شمس كتمانها. وبعد أن انتهت وعاد شاطئها إلى طبيعته بين الجفاف والبلل، بدأ في الإجابة على سؤالها ويقول: طالما أنك قلتي أنه ماضي مهتري وخراب فادفنيه مكانه. فلم تعد له فائدة. وطالما قلتي بأن حاضرك معدوم الأمان ف اهجريه وانطلقي للبحث عن الأمان. ولا أقصد بالهجر بأن ترحلي عن البيئة التي أنتي فيها. أقصد بأن تهجريه بالتجاهل. ف الشيء المجهول يموت من تلقاء نفسه مهما كان مرعباً و مخيفاً. وانطلقي للبحث عن الأمان بالاهتمام بنفسك واعطائها حقها من جانب القوة ووضع الخطط التي تزرع في داخلك الأمان والطمأنينة.
فترد عليه: وهل يمكنني ذلك؟ وكيف؟ فيقول لها: نعم، يمكنك ذلك وذلك بأن تهدمي ذلك الماضي المهتري المليء بالخراب وتقتلي ذلك الحاضر المخيف معدوم الأمان و تبدئي من هذه اللحظة في كتابة الخطط عن كيفية بناء أساس متين للمستقبل. فتقول له: حسناً أيها الماضي سأقوم بكل ما قلت لي دون التقصير في شيء. ولكن لدي سؤال أخير، لماذا أتيت اليوم؟ لماذا لم تأتي سابقاً رغم أخبارك لي بأن إمساكي للمذكرة هو سبب استدعائي لك رغم أنني كنت في كل ليلة أمسك مذكرتي و أكتب عليها؟ فيرد عليها وهو مبتسم لكي لا يهز مشاعرها في ما عزمت عليه: لم أستطع أن أتحمل رويتك تتالمي كل يوم بفتحك للماضي و شكائك بعدم الأمان من الحاضر. وكنت أريد أن أصلح ما دمرته في داخلك بأن أساعدك على التحرر منه . فتنهض وتحتضنه قائلة: شكراً لأنك جئت من أجل مساعدتي للخروج من ما أنا عليه . إذا به يقول لها: لا عليك من ذلك. لقد حان وقت رحيلي. ولكن قبل أن أذهب أريدك أن تعطيني وعداً بأن لا تعودي لما كنتي عليه و تبدئي بتنفيذ كل نصيحة قدمتها لك. فترد عليه: هذا وعد مني لك بأنني لن أعود لأستدعائك مرة أخرى وسأبدأ بتنفيذ كل ما طلبته مني. دوماً كلل أو ملل. ف يودعها قائلاً: مع السلامة. وترد عليه: إلى لقاء بعيد غير قريب. فيبدأ في المشي نحو باب ذكريات الماضي الذي قدم منه وهو يضحك من قولها فرحاً بأنه ودعها وهي تضحك بعد أن كان هو السبب في حزنها. وما أن خرج وأغلق الباب وإذا بالفتاة تنهض نحو الباب لكي تتأكد بأنه قد رحل. وإذا بها تفتح الباب وتجد أهلها جالسين في غرفة الجلوس يشاهدون التلفاز. فتعود إلى غرفتها وتبدأ في تمزيق كل ما كتبته في مذكرتها عن الماضي والحاضر وتبدأ وبكل حماس وعزيمة في كتابة خطط لبناء أساس متين لمستقبلها. وما هي إلا شهور قليلة من وضع خطط الأساس، وتجد نفسها تغيرت مئة وثمانون درجة وأصبحت حياتها مثاليه. وإذ بذلك الماضي يعود إليها وينظر خلسة دون أن تشعر به ويجد بأنها كانت قد الوعد الذي قطعته على نفسها. فيرحل رحيلاً أبدياً والفرحة تغمره بسبب أنه قد تم إصلاح ما دمر فيها.
……………………………..