Skip links

التيار الإسلامي في الشعر المعاصر ( طوفان الأقصى لبدري البشيهي – أنموذجًا ) دراسة للدكتور/ أحمد فرحات .. مصر

عندما نقول (شعر إسلامي) فإننا ننظر في كلمة (الإسلام) مُفَرِّقِين بين الإسلام كدين سماوي من السماء إلى الأرض عن طريق الوحي، وأنه دين لله مطلقًا نزل على الناس كافَّةً عن طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ” وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ”[1]   ، والدين عند الله هو الإسلام “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ”[2].

وقد ظهر الشعر المنتمي إلى الإسلام منذ الوهلة الأولى لفجر الإسلام، واستقطب الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم –الشعراء؛ ليتعاونوا مع الدعوة التي تنادي باسم الإسلام لمَّا وجد هِجاء من شعراء الكفار للمسلمين؛ ففي غزوة أُحُدٍ يتجلى لنا موقف عبد الله بن الزِّبَعْرَى، وقد كان من أشد الشعراء عداوةً للمسلمين، وكان يناقض حسانًا، ويرد على المسلمين فخرهم، ويشمت بقتلاهم، ويبكي المشركين، ومع ذلك فقد أنصف المسلمين عندما قال(الرمل):

كَمْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ سَيِّدٍ                      مَاجِدِ الجَدَّينِ مِقْدَامٍ بَطَلْ

 صَادِقِ النَّجْدَةِ قَرْمٍ بَارِعٍ             غَيرِ مُلْتَاثٍ لَدَى وَقْعِ الأسَلْ([3])

فَقَتَلْنَا الضِّعْفَ مِنْ أشْرَافِهِمْ              وَعَدَلْنَا مَيلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلْ([4])    

فأجابه حسان بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه-، إنصافًا بإنصاف فقال([5])(الرمل):

ذَهَبَتْ يِابنِ الزِّبَعْرَي وَقْعَةٌ          كانَ مِنَّا الفَضْلُ فِيهَا لَو عَدَلْ

وَلَقَدْ نِلْتُمْ وَنِلْنَا مِنْكُم            وَكَذاكَ الحَرْبُ أَحْيَاناً دُوَلْ

           وتنوع الشعر الإسلامي في العصور التي تلت العصر الأول إلى الشعر الصوفي، وشعر التوبة، والزهد، والحكمة، وشعر الجهاد، والغزوات، ورثاء المدن والممالك الإسلامية..

         ولا غرو؛ في بداية الدعوة أن نجد شعراء غير مسلمين يُدلُون بدلوهم في هذا المجال الجديد عليهم، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مركز اهتمام الشعراء المسلمين وغير المسلمين، أما المسلمون فقد تباروا في خدمة الإسلام ورسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-، وكان منهم عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وغيرهم. وكان من الطبيعي أن يناصروا الدعوة إلى الله، فلا ريب في ذلك،أما غير المسلمين فقد مدحوا أخلاقه الكريمه -صلى الله عليه وسلم-، وأثنوا على صفاته، وعددوا مناقب خلقه، وهم ليسوا مسلمين ولكن أخلاق الرسول جعلتهم يتوجهون إليه -صلى الله عليه وسلم- على اعتبار أن دينه يدعو إلى مكارم الأخلاق، وكان من الذين مدحوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمية بن أبي الصلت، وأبو طالب بن عبد المطلب، وقتيلة بنت النضر بن الحارث، وأبو عزة الجمحي، وغيرهم ممن كانوا لا يدينون بدين الإسلام، ولكنهم أحبوا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ، ووجدوا فيه النموذج الإنساني المتكامل[6].

       وربما يظن ظانٌّ أن العصرَ الحديثَ قلّت فيه الحاجة إلى ذلك اللون من الشعر. بل زادت الحاجة إليه حديثا. الاستعمار والقضية الفلسطينية والفساد الذي استشرى في البلاد، وسوء الأحوال، والهزائم التي توالت في أرض العرب، سواء كانت هزائم مادية، و معنوية وروحية.. كلها كانت داعية إلى الشعر الإسلامي. وينتمي شعراء الإسلام إلى شعر الدعوة ؛ وشعر الدعوة هو الشعر الذي دعا فيه الشعراء المسلمون المشركين إلى ترك عبادة الأصنام، والدخول في دين الله.[7]ومنذ ذلك اليوم إلى الآن وشعر الدعوة في تَنَامٍ وازدياد، نظرا لحاجة الناس إلى التذكير بتعاليم الإسلام السمحة والدعوة إلى الطاعات وفعل الخيرات وترك الموبقات.

يرى بدري البشيهي -في مقدمة ديوانه طوفان الأقصى- أن طُغيانَ الفلسفة المادية الغربية الحديثة وانتشار التيارات والفرق الإسلامية المختلفة التي تمثل ظاهر الدين لا جوهره كانت داعيًا حقيقيًّا لازدهار التيار الإسلامي في الشعر المعاصر.

      وتتمثل وظيفة الشاعر ضمن تصور الشعر الإسلامي في الالتزام بالحقائق الربانية وبمبادئ الإسلام، والارتقاء بالإنسان نحو الأفضل عقليًّا ووجدانيًّا ودينيًّا، ومحاولة تغييره من الأسوإ نحو الأحسن. ويتناقض الإسلام كُلِّيًّا مع الالتزامين: الماركسي و الشيوعي؛ لأنه قائم على التوازن بين المادة و الروح والفرد و الجماعة..وعن وظيفة الشعر فتكمن في ريادة الناس، وقيادتهم نحو الصراط المستقيم، والتغيير و الهداية، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، و الإرشاد والوعظ و المناجاة، و التعبير عن التجارب الوجدانية الذاتية و الموضوعية[8].

إن السمة الأبرز في شعر البشيهي هي الاعتداد بالذات وتضخيم الأنا بشكل لافت:

أَنَا البَدْرِيُّ والصُّعْلُوكُ فِيكُمْ         شَرِيفٌ لَيْسَ تُدْرِكُنِي النُّعُوتُ

ويقول:

أنا الإسْلَامُ أَنْشَأَنِي فَتِيَّا            أُقَاتِلُ حَامِلًا رُوحي أَبِيَّا

ويقول:

أنَا المِصْرِيُّ في الهَيْجَاءِ دِرعٌ            أَرُدُّ الظُّلْمَ عَنْ شَرَفِي أَذُودُ

أنا الجُنْدِيُّ في السَّاحَاتِ أَلْقَى       رِياحَ المَوْتِ يَحْدُوهَا الخُلُودُ

  (أنا الشاعر) مطلوبة بلا شك، وهي أنا عُليا بالنسبة إليه، وبدونها لا يكون الشاعر مُحلِّقًا، أنا الشاعر  تناولت الطموح ومواقفه وتطلعاته الكبرى عبر القضايا التي تناولها في الديوان.  

ولا يجدر بنا أن نأخذ (أنا الشاعر) هنا بمحمل الغلو أو الاستعلاء، ولكن ننظر إليها نظرة تأمل شاملة للكون الذي يرنو إليه ويتطلع إليه بكل جوارحه وحواسه، فالشاعر طاقة شعرية جبارة لا يقف أمامها أي شيء فخياله أكثر اتساعًا من عقله، وبصيرته أرحب من بصره، فهو المصري، والعربي، وهو الإسلام، وهو الصعلوك، وهو البدري(بالبنط العريض)

أَنَا البَدْرِيُّ والصُّعْلُوكُ فِيكُمْ               شَرِيفٌ لَيْسَ تُدْرِكُنِي النُّعُوتُ

ولا تعني تضخم الذات هنا النرجسية أو الاستعلاء بل تعني الطموح المشروع للشاعر، ورغبة التأكيد على العزة والسمو. الشاعر المنتمي إلى التيار الإسلامي في شعره ” هو ذلك الشاعر الذي ينطق معظم شعره بالعاطفة الإسلامية، ويعالج في قسم من قصائده مشاكل الإسلام و قضاياه، على ألا يكون في سائر شعره ما يخالف عقيدة الإسلام، أو يناقض مواقفه الإسلامية الصادقة في قصائده الأخرى. إذًا، هو الشاعر الذي يحيي الإسلام بكل معانيه في جميع مجالات الحياة ويلتزم ذلك كله في شعره”[9] وهذا ما ينطبق تمامًا على بدري البشيهي في ديوانه طوفان الأقصى، وفي كل شعره بلا استثناء.

        وفي مرتبة من مراتب المحبة نلحظ محبة الوالد، محبة الجد، وفي منزلة الأب تأتي محبة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، فيقول عن الأب:

أَبِي رَبَّى الحُرُوفَ عَلَى إِبَاءٍ       وَقَالَ: اسْلُكْ سَبِيلَكَ لِلْمَعَالِي

أَبِي أَوْصَى بِقَوْلِ الحَقِّ حَتَّى          وَإِنْ كَانَ الحِمَامُ صَدَى المَقَالِ

أَبِي يَرْضَى وذَا فَخْرِي وَعِزِّي              وَقُوَّةُ مَنْطِقِي بَيْنَ الرِّجَالِ

ويصف الجد ب”ولي الله” فيقول:

جَدِّي، أَتَيْتُكَ وَالحَنِينُ يَقُودُنِي           شَوْقًا لِرُوحِكَ، يَا وَلِيَّ اللهِ

جَدِّي، أَتَيْتُ الرَّوْضَ أَسْعَى رَاجِيًا        حَرْفِي يُنادي: يَا وَلِيَّ اللهِ

أَشكُو إِلَيْكَ، فَإنَّ آدَمَ قَدْ عَصَا          أَكَلَ الحَرَامَ أَيَا وَلِيَّ اللهِ

وفي منزلة الشعر الأسري/ العائلي يعجب بمواقف شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب فيقول:

يا شَيْخُ أَحْمْدَ أَحْرُفِي تَفْدِيكَا        فَاسْلُكْ سَبِيلَكَ، وَالهُدَى يَحْدُوكَا

وَالحَرْفُ يَجْرِي حَيْثُ تَجْرِي تَابِعًا        نَهْجًا كَرِيمًا والرُّؤَى تَهْدِيكَا

فَالخِضْرُ أَنْتَ وَإِنَّنِي بِكَ مُقْتَدٍ             مُوسَى أَتَى بِالبَحْرِ لَا يَعْصِيكَا

وفي محبة السيد رئيس الجمهورية يقدم له قصيدة”نُصح وكفى” فيقول:

بَدَأُوا بِتَمْزِيقِ المَعُونَةِ وَالكُتُبْ        فَانْهَضْ وَمَزِّقْ عَهْدَ ذُلٍّ مَا وَجَبْ

وَاكْتُبْ لَنَا شَرَفَ الزَّمَانِ بِرَكْعَةٍ        في القُدْسِ إِنَّا فِي حِمَاكُمْ نَحْتَجِبْ

مَنْ لِلْعُرُوبَةِ غَيْرُ جَيْشُ كِنَانَتِي؟      لَا بَعْضُ جَيْشٍ قَد تَسَرْبَلَ بِالغَضَبْ

     ويلاحظ على هذا اللون من الشعر الأسري أنه يمثل رجاءات ونداءت وتوسلات وأشواق لمن علا مقامًا ونسبًا، وأن الشاعر يظهر الاحترام اللائق بالأب والجد والشيخ الكريم والسيد الرئيس، ولا يظهر غير رجاءاته وأشواقه إليهم، دون إثارة أو غضب أو تَبَرُّمٍ.

    ومن السمات البارزة أيضًا في طوفان الأقصى تلك النبرة الثائرة والغاضبة كملمح مهم في الديوان يتجسد في عناوين القصائد الغاضبة أو في مبناها الغاضب . تأمل هذه العناوين الصارخة:

ثورة البشيهي-أنا السيف – صيحة الهجرة-صيحة صحفي-صرخة مريض سرطان-صرخة أسير فلسطيني-صرخة مجاهد-صرخة طفل فلسطيني-صيحة الشهيد-صرخة الأجنة-غضبة الأهواء-ماتت عروبتنا..

وهي عناوين تشي بكم الغضب والثورة ويكفي أن الصرخة والصيحة تكررت بشكل لافت ومثير، مما يعني أن مضمونها شديد الصخب.. فيقول:

صَرَخَ الجَنِينُ عَلى شَفَا الأَرْحَامِ         بَدَأَ الحَيَاةَ عَلَى لَهِيبِ حُطَامِ

صَرَخَ الرَّضِيعُ بِأُمَّتِي: يا أُمَّتِي           أَمّنْ يُتِمُّ الخَمْسَ بِالإِحْرَامِ؟

صَرَخَ الرَّضيعُ عَلى الملُوكِ كَأَّنَّهُ       عِيسَى يُحَقِّر عَابِدِي الأَصْنَامِ

وغير خفي تلك الصرخات والنداءت والاستفهامات التي تثير الشجن وتبعث على الألم والقلق والثورة ..

وفي شعر البشيهي مسلك فني لافت، فهو كثير القراءة في تراثنا الشعري القديم، يقلبه ويصب من خلاله غضبه على الواقع، فهو معارض لشعرنا القديم، ومُتَحَدٍّ لكبار الشعراء الجاهليين والمحدثين رغبة في إثبات الذات، وجريًا على الاعتداد بالذات التي ألمحنا إليها آنفًا. فيقول مُعارضًا عنترة:

سَكَتُّ فَغَرَّ صِهْيُونَ السُّكُوتُ        يَخَالُونِي لِقُدْسِي قَدْ نَسِيتُ

وَلِي بَيْتٌ عَلَا شَرَفَ القَوَافي         فَتْجْرِي في طَهَارَتِهِ البُيُوتِ

مجاراة لقول عنترة:

سكتُّ فَغَرَّ أعْدَائي السُّكوتُ         وَظنُّوني لأَهلي قَدْ نسِيتُ

ولي بيتٌ علا فلكَ الثريَّا           تَخِرُّ لِعظمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ

ويجاري (شوقي) في قصيدة سلوا قلبي فيقول:

سَلُوا قَبْرِي غَدَاةَ حَلَا وَطَابَا           أَنَا رُوحٌ وَفِيّ القُدْسُ ذَابَا

وإنَّ القُدسَ في كَرْبٍ تُنَادي          لعلَّ لكُم عَلى البَلْوَى جَوَابَا

   ويُسْألُ في المعَامِعِ ذُو سِلاحٍ          فَإِنّي أَعزَلٌ مَلَكَ الخِطَابَا

وهنا تجدر الإشارة إلى التجارب الشخصية للشاعر التي ألهمته بروزًا وتميزًا عاليين، فالموهبة الفطرية للشعراء تميزهم عن غيرهم الموهبة الفطرية التي وهبها الله لا تأتي إلا بالفطرية السليمة، والميول الذاتية القائمة على الحرية والعدل والإخلاص إلى الله في دعواه ؛ فقد وهبه الله موهبة الشعر والقدرة على النظم التي تفجرت فيه بعد سن الأربعين من خلال ملحمته “درة الإسلام في سيرة خير الأنام” التي تربو على أربعة آلاف بيت، وكأنها الجينات الوراثية التي ظلت كامنةً في أعماقه حتى تفجرت في ذلك التوقيت؛ ليدافع عن قضايا الأمة.          

     وقد كان لبعض الأسر دور بارز في تكوين الشعراء المميزين كأسرة شاعرنا(البشيهي) ؛ دور لا يمكن تجاهله في العديد من مجالات الأدب والفكر والفن.. وهي أسرة عُرِفَ معظم أفرادها بالطموح، والمثابرة، والإصرار على بلوغ الأهداف المنشودة، رغم كل العوائق والعراقيل  ولا نُغالي إذا قلنا إن الجينات الكامنة في أسرته عبر التاريخ كان لها تأثير كبير في رسم الطريق الفكري والفني لشاعرنا .

ويكفي أن نذكر جده بهاء الدين الأبشيهي(790-852ه) صاحب “المُسْتَطرف في كل فَنٍّ مُسْتَظْرَفٍ”، وجده العارف بالله الشيخ محمد بن شعيب الحجازي الأبشيهي الخزرجي مات 1031ه تقريبًا، وله العديد من المؤلفات الفريدة في التصوف، ومنها “المَعَاني الدَّقِيقَة الوَفِيَّة فيما يَلْزَمُ السَّادَةَ النُّقَبَاءَ الصُّوفِيَّةَ”.  

 ……………………………

 [1] 192 سورة لبقرة.
[2] 19 آل عمران.
([3]) النجدة: القوة والشجاعة. القرم الفحل الكريم. البارع : المبرز على غيره. الملتاث: الضعيف. الأسل: الرماح.
([4]) السيرة النبوية . لابن هشام 2/ 136.
([5]) السابق. ص 137.
[6] د. أحمد فرحات، الرسول الكريم في عيون شعراء غير مسلمين، مجلة االهلال، عدد أكتوبر 2022م،ص160.
[7] انظر ابتسام مرهون الصفار، الآمالي في الأدب الإسلامي، دار المناهج للنشر والتوزيع، 1426هـ2006م، عمان الأردن، ص169. 
[8] جميل حمداوي، مميزات الشعر الإسلامي المعاصر وخصائصه الموضوعية والفنية.مجلة ندوة.
[9]  أحمد عبد اللطيف الجدع وحسين أدهم جرار: شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، الجزء الأول، 1398 هـ -1978مص:9

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag