
– كيف سَرَقَ أرواح أولئك الناس؟!.
أَجبْنا أمام المسئولين بما نعرفه عن سيرته:
– إنه رجل بسيط من بلدتنا.. يمضي وحده وسط الحقول أحيانًا.. يسهر ليلًا في مقهى وسط أصدقائه القدامى.. حاضرٌ دائم في حفلات الزفاف والمآتم خصوصًا بعد إحالته للتقاعد.. لا يزال مُغرمًا بأجواء الطفولة؛ يصنع لأحفاده طائرات ورقية، ويشاركهم في إطلاقها وطَيّها.
– ألم يلحظ أحدكم تغييرًا عليه في الأيام الأخيرة؟.
كانت ردودنا، بالنسبة للمحققين، ثرثرة ساذجة ومضحكة. طرقوا المكاتب بقبضات نافدة الصبر، زعقوا في وجوهنا بأسنان بيضاء حادة؛ ليدفعونا لاعترافات أكثر وضوحًا وجدية، لكننا لم نخبئ عنهم شيئًا رأيناه.
اكتشفنا أننا استيقظنا جميعًا ذلك اليوم ونحن في قلب الخطر، لم يحضر أحدنا بداياته الأولى، وهذا ما أرعبنا أكثر من مفاجأة الاستدعاء والتحقيق. حينها رحنا نتخبط بين اللغة والإيماء العاجز عن التعبير، فاستسلموا بعد إدراكهم لغفلتنا، ثم أفرجوا عنه بدعوى البلاغات الكيدية.
حين خرج ظافرًا بالبراءة دخلنا جميعًا غرف الإشاعات.. تتهامس الأفواه للآذان، تُقلِّبُ الرؤوس الكلام طويلًا، لكن دون الوصول أيضًا إلى حقيقة يمكن تصورها في عصرنا المليء بآلات الفضاء، والروبوتات الفائقة.
– “كيف سطا فعلًا على الأرواح؟!”. “هل استعان بعفاريت الأرض كلها؟!”. “أقتل عددًا من البشر في جرائم شبه كاملة، واستولى على دخان أجسادهم الطازج؟!”. “مَنْ تَجرَّأ وأبلغ عنه، وجميعنا في البلدة، تقريبًا، لم نعرف شيئًا عن الأمر إلا بعد التحقيق مع أقاربه، وجيرانه، وكل ذوي الصلة به؟!”.
دخلنا قلب الحيرة، كلما رأيناه مارًا إلى جانبنا ذُهلت عيوننا، فهيأته التي ألِفناها كانت تتحول إلى أشكال متداخلة من أجساد وأطياف ملونة، ولم نحسم أمر تلك المرئيات أبدًا: أهي صناعة خيالٍ غدا أسيرًا للارتباك إزاءه، أم حقيقة لم نصل إلى تفسيرها بعد؟! كل هاجس صار قابلًا للتصديق.
***
وجاءنا بالأخبار زوارٌ كانوا يحظون بثقته من قبل:
– إنه فعلًا يحتفظ بعدد من الأرواح داخل حقيبة جلدية سوداء ذات جيوب لا تنتهي، خبأها فور معرفته بالقضية. كان المُطارِدون نفرًا من خارج البلدة، تعامل معهم حينًا، ثم خلا بهم، وحين خرج سالمًا وضع الحقيبة الغامضة أمامنا على طاولة مكتبه.
– دون أي احتياطات أخرى؟! نسألهم بلهفة وتعجب.
– ولا أي شيء. كأنه يعرض ملفه الوظيفي بعد الخروج للمعاش. يُجسِّدون لا مبالاته في ردودهم، وفي أعينهم ينبض الغموض.
ويستغل أحدنا الفرصة حين ينفرد وحده بأحد ثقاته؛ ليجره إلى اعتراف عبر الاستهانة، والتشكيك:
– أرأيتَ بعينيك؟! صف لي كيف تشبه هذه الأرواح حين فتح الحقيبة؟!
– رأيت، ولم أر. شيء غريب. هواء ثخين شفاف.. حين تُركِّز بصرك بالداخل تشعر بالألوان.
– ألوان طبيعية كالأبيض، والأسود، والبني، والأحمر؟!
– نعم، مثل هذه، غير أنها ليست بنفس الكثافة.. ألوان شفافة، هكذا تحس بها، ومع الخلفية السوداء لبطانة الحقيبة يلتبس عليك الأمر.
وتقول امرأة لجارتها:
– كنت أشاهد لمجرد الفضول، غير أن الموضوع مرعب جدًا.
– ماذا تشبه أرواح النساء، وما شكل تلك التي للرجال؟! ما الفرق بين أرواح العاطفيات، والعنيدات، والحاقدات، و…؟! تسأل الجارة عن كل ما يهجس به خاطرها؛ لتحصل على إجابات تطمئنها، لكن الأخرى توقفها بنظرة جامدة، ثم تخبرها بأن الأمر لا يوصف ببساطة.. “كلما أمعنتِ النظر رأيتِ شيئًا جديدًا، حركة خفية تتقلب فيها الروح الشفافة داخل العلبة كالجنين في بطن أمه، ثم تلاحظين الألوان. رجوته أن أشم رائحتها، فرفض مدعيًا أنها شيء لا رائحة له”.
– كيف يميز بينها؟!
– هذا شغله.
– شغل؟! إنه شغل عفاريت، ربنا يحفظنا.. لكن كيف تعاملت معه؟!
استدعت رأس جارتها ناحيتها بإشارة من يدها، وهمست قرب أذنها، رغم أنهما يجلسان وحدهما بغرفة داخلية:
– طلب مني إن أردت تجربة روحٍ أخرى أن أخلع روحي بدلًا بها.
أيخافان عفاريت تتجول قربهما؟! ربما. هذه الضحكة المنفلتة والتعليق للجارة: “أطلب أن أتخلعي روحك فقط؟!”، تلت تلك الاستراحة الضاحكة نظرة جديدة إلى وجه الرائية، ثم تجوالها في أنحاء الغرفة بشرود يقول ذلك، فإذا كانت الأرواح تؤجر، أفلا تكون الشياطين تسبح حولنا في الهواء، وتُغيِّر أمزجتنا وحياتنا بين ساعة وأخرى؟!
– هل وافق؟! سألتها وهي تمعن الملاحظة فيها مقارنة بين ما كانت عليه بالأمس من تحوط وخجل وما هي عليه اليوم من جرأة وبوح بما لا يباح به، فردت عليها الأخرى:
– أُجرِّب؟! من يدريني أن بعضها ليست أرواحًا لقطط، أ و كلاب؟!
استعادت المرأتان نوبة الضحك، والتعليقات. لم تكن تلك الحجرة التي تشبه العلبة وحدها غارقة في هذا الانشغال. بكل بيت علبة أخرى إما يشغلها اثنان أو أكثر يتحادثان بشأن هذا الأمر الجديد، أو واحد يحلم بتجربة ما لم يكن يخطر من قبل على باله، غير أن تلك الحوارات لا تلبث أن تنتشر في هواء البلدة، فيتبادلها الجميع كأنها تخصنا جميعًا.
***
إمعانًا في التشويق كان صاحب حقيبة الأرواح يخرج إلينا كل يوم بسمتٍ جديد. كأنه إعلانٌ حيٌّ متجول عن بضاعته الساحرة. تحيرنا أكثر من حكاياته الجديدة: “إنه لا يكسب كثيرًا من المال عن عمله المذهل؟! كل ما يطلبه منك أن تعطيه روحك، فيمنحك واحدة أخرى”.
هكذا بدأ البعض ينتبهون إلى أن كل واحدٍ يتبادل الدور مع شخص آخر بمجرد قبوله الشروط، فيصبح كلاهما الآخر ليوم أو أكثر من ذلك. هكذا يمضي كل واحد ساعاته الطويلة الأولى وهو يسبح داخل نفسه؛ للعثور على الصاحب الأصلي للروح التي ارتداها، وحين يعجز عن معرفته يمارس حياته منصتًا فقط إلى دبيبها المختلف. تَشوُّقنا للعبة جعلنا نتفق على ألا يعبر سِرّنا أطراف قريتنا أبدًا، وصَدَّق مالك الحقيبة على ذلك، فقد جرَّب وعاني من التشهير.
ثم تراجع خوفنا مع ابتهاج المغامرين الأوائل، وحكاياتهم الغامضة عن لحظة التبديل الخارقة: تغمض عينيك، ثم تشعر بانسحاب خيوط حارة من خلاياك كلها، فتغيب داخل عالم بلا وزن للحظات كأنها دهر، حتى تستقبل روحًا جديدة، فيعود إليك إحساسك بثقل الجاذبية. اندفعنا إليه، حتى صرنا خليطًا عجيبًا، لا تعرف من منا جَرَّب التبديل لمرة واحدة، ومن جرب مرتين، أو ثلاثة، أو أكثر، ومن لم يُغيِّر ثوب نفسه قط.
كان التمييز شاقًا؛ لأنك تعامل الرجل أو المرأة بطريقة، وتفاجأ في الأيام التالية بأنك تواجه إنسانًا آخر، حتى ارتبك كل شيء.. تذكرت حينئذٍ كل حكايات جَدّيَّ، وأمثالهم المكشوفة والطريفة حول البشر. صرت أراها تتجسد فيمن حولي، حتى بدا الناس في بلدتي كأنما يعكسون طِباع أناس الماضي؛ حتى أدركت أننا جميعًا نفعل ذلك؛ لأننا نرتدي أرواحًا مستعملة. فقدنا إلى الأبد تلك التي وُلدنا بها. أخذها الآخرون أيضًا ليجربوها، فأضافوا إليها شيئًا من أنفسهم وتجاربهم، ولو عادت إلينا، فلن تكون إلا شيئًا مختلفًا عما أَلِفْناه. لن نعثر فيها ببساطة على أنفسنا القديمة. كانت المتناقضات تتجاور حولنا وتسكن داخلنا، فالجميع يرغبون بالتعارف، ويريدون في الآن ذاته تجنب بعضهم بعضًا. الأكثر غموضًا أن صاحب حقيبة الأرواح نفسها لا يكف عن منحك واحدة جديدة كلما تعبت، فتبتهج حينًا، ثم يغرقك الذهول.
لا شك أننا تورطنا جميعًا في لعبة خطرة ثمنها الحياة نفسها. ما جعلني في لحظات الصفاء أجمع حكمة الأجداد حول البشر، فأُدوِّنها في أوراقي، وأحفظها قرب سريري وأخط على غلافها (ملفٌ سريٌّ ومهمٌ جدًا)؛ حتى إذا ما ضجت الروح التي تعاركني بالداخل، واستبدلتها بواحدة جديدة لا أفقد البوصلة داخل متاهة الأرواح الدوَّارة.
…………………………