
مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ …
(خشية غير الله)
في كثيرٍ من الأحيان، نقوم بأفعال لا بدافع طاعة الله، بل خوفًا من الناس، أو حرصًا على صورتنا أمامهم، أو خشية فقدان عمل، أو جاه، أو رزق. حتى إن البعض يؤدي أركان الإسلام خوفًا من كلام الناس، لا حبًّا في الله، ولا طمعًا في قربه.
ذلك لأن الخوف، وإن كان غريزة فطرية، فإنه يتحول أحيانًا إلى قيد خفيّ، يجعل الإنسان عبدًا للخلق، لا للخالق.
الخوف من المستقبل، من الناس، من المرض، من الفقر، من فقدان المكانة… كلها مخاوف إذا استقرت في القلب وزاحمت خشية الله، تحوّلت إلى عبء ثقيل يعكر صفو الحياة، ويغلق أبواب الطمأنينة.
قال الله تعالى:
“فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين” (آل عمران: 175)
توجيهٌ مباشر من الله بأن الخوف يجب أن يكون موجهًا له وحده، لأن ما سواه لا يملك ضرًّا ولا نفعًا.
يقول الفيلسوف “باروخ سبينوزا”:
“الخوف يولد من الجهل، ومن عدم إدراكنا لحقيقة الأشياء.”
وهذا ينطبق تمامًا على من يخاف على رزقه من الناس، لأنه يجهل أن الرزق بيد الله.
ويخاف من المرض، لأنه يجهل حكمة الابتلاء.
ويخاف من فقدان المنصب، لأنه نسي أن الكرامة من الله لا من البشر.
الخوف من غير الله لا يمنع قدرًا، ولا يغيّر شيئًا.
لكنه يسرق منك راحة البال، ويُضخم في عينك أوهامًا، لا حقائق.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
“العبودية لا تكتمل إلا بكمال المحبة مع كمال الذل، وأكمل الناس عبودية أكملهم خوفًا ورجاءً.”
فالخوف من الله لا يعني الرعب، بل يعني الوعي بعظمته، والخضوع له، والاتصال به.
أما الخوف من الناس، فيعني الانفصال عن نفسك، والوقوع في أسر الوهم، والقلق الدائم.
- حين تخاف من الناس، فأنت تُعطيهم مكانة لا تليق إلا بالله.
- حين تخاف من المستقبل، فأنت تتجاهل أن الغد بيد من لا ينسى.
- حين تخاف من فقدان المال أو الجمال أو المنصب، فأنت تتعلق بما هو زائل، وتنسى أن الثبات الحقيقي لا يكون إلا بالله.
قال رسول الله ﷺ:
“واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك”(رواه الترمذي)
أين يذهب خوفك بعد هذا الحديث؟
كيف تخاف من فقير، وتنسى الغني؟
كيف تخاف من عبد، وتغفل عن رب العباد؟
- الخوف من الله: يولد طمأنينة، تهذيبًا للنفس، وانضباطًا في السلوك.
- الخوف من الناس: يولد اضطرابًا، قلقًا، تنازلات، وذلًّا لا معنى له.
الخوف من الله يقودك إلى الكرامة، أما الخوف من غيره فيقودك إلى التفريط في ذاتك، والتنازل عن مواقفك، والتلون بحثًا عن رضا الآخرين.
يظن البعض أن خوفه من فقد المال أو المكانة هو “حرص مشروع”، لكنه في كثير من الأحيان، تمرد داخلي على القدر.
“الخوف الزائد هو تمرد خفي على حكمة القدر.”
حين تخاف مما لم يقع، وكأنك تقول: “أنا لا أثق بما يقدره الله لي.”
حين تخاف من الله، فإنك تعود إليه، تتوب، تلين، وتطمئن.
أما الخوف من غيره، فيدفعك إلى الهرب، والتشتت، والضياع.
قال بعض الصالحين:
“هربوا من الرزاق خوفًا على الرزق، ولو بقوا معه لأتاهم الرزق من حيث لا يحتسبون.”
فالخوف من الله لا يُشلّك، بل يُحرّرك.
يُنقذك من أن تتكبر، أو تظلم، أو تعيش في وهم السيطرة.
يبقيك متوازنًا… عبدًا لله لا عبدًا للناس.
الحياة ممر لا مقر، والممر لا يستحق أن نحمل فيه أوزان الخوف من الناس، أو الحرص الزائد على صورتنا أمامهم.
الناس يتغيرون، الدنيا تتقلب، والصحة تفنى، لكن الله… لا يتغير.
فاجعل خوفك منه، وأمانك فيه.
وتذكّر:
- من خاف الله… لم يُخفه شيء.
- ومن خاف غير الله… لم يأمن شيئًا.
اللهم اجعلنا ممن يخافك حق الخوف، ولا يهاب غيرك، ولا يتذلل إلا إليك. ارزقنا قوة الثبات، وسكينة القلب، ونور البصيرة.
وتذكّر دائمًا:إنها مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ.”
……………..
إلى الجمعة القادمة
أشرف عزمي
👁️ عدد المشاهدات: 12