الـســؤال
مــا زلـتُ أكـمنُ هـا هـنا فـي حـيرتي
لا حـــرفَ يـسـعـفُني لأرويَ قـصـتـي
تـتـرنّحُ الـكـلماتُ فــي صـحـفي ولا
ألـقى سـوى الـتأنيبِ فوق صحيفتي
مـا زلـت أسـأل مـن أنـا ؟ ولـمن أنا ؟
وعـــلامً أبــدعَ خـالـقي صـيـرورتي؟
ولنزوةٍ الشكِّ الذي يغتالني
مًن ذا سيُقنعُني ويُلغي نزوًتي
فــالـى مـتـى الـتـاريخُ يـبـقى كـاهنـاُ
يَـسـتَلُّ مِــن ذهنــي خيوطَ بــصـيـرتي
أحــيـا كــأهـلِ الـكـهفِ أنــوي رجـعـةً
والـكـلـبُ يـنـهـرُني ويـأبـى رجـعـتي
متـهافــتٌ عـنـدَ ( الـغـزالي ) الــذي
بـالـجـهـلِ قَـيّـدَنـي وألــغـى ثــورتـي
ولِ ( إبــنٍ رشــدٍ ) لـم أصـنْ مـيراثَهُ
وأضـعـتُ بـعـدَ حـضارتي اسـطورتي
لأعـيـشَ فــي زمــنٍ الـعـجائزِ خـائـباً
مــا بـيـنَ مـزحـةٍ عـابـثٍ أو مُـزحتي
أنـا إبـنُ ( كُنْ ) والطينِ والروحِ التي
لـــولا خـطـيـئتها انـتـفـتْ كـيـنونتي
أنــا رهــنُ ( مــاذا ) لــو أتـتْ بـإجابةٍ
بــعـدَ الـــذي أعــيـا هـدوئـي والـتـي
وأنــــا حــضــاراتٌ تــولّــى عــهـدُهـا
لــتـنـوءَ بــــالإرثٍ الـمُـثًـقًّلٍ حُـقـبـتي
لأعـيـشَ فــي زمــنٍ الـعـجائزِ خـائـباً
مــا بـيـنَ مـزحـةٍ عـابـثٍ أو مُـزحتي
أأنــــا وجــــوديٌّ ؟ مـثـالـيٌّ ؟ وهـــل
لا إنـتـمـائي ســوف يـنـهي وحـدتـي
عــبـثٌ هـــي الأفــكـارُ لا مـعـنىً لـهـا
إنْ لــم تًـضَـعْ ألـوانَـها فــي صـورتـي
أنا صخرةُ ال ( سيزيف ) أفنى عمرَهُ
مـــا زالَ يَـرفـعُني وأعـشـقُ حُـفـرتي
وأنـا ك ( سـقراطٍ ) الحـكيمِ أطَعتُهُمْ
وشـربـتُ كـأسـاً مُـتـرَعاً مـن خـيبتي
القاهرة ٢٠٢٢
في هذا النص عميق الدلالة، قوي العبارة، لطيف الإشارة تتجلّى ثيمة صراع الحضارات بوصفها محوراً مركزياً تحرّك الشاعر وتفجّر أسئلتها، لا عبر مواجهة خارجية بين الغرب والشرق، بل عبر مواجهة داخلية بين الإنسان وتراثه، بين الماضي والحاضر، بين ما كان ينبغي أن يكون، وما آل إليه الوضع الحضاري المعاصر.
تظهر شخصية المتكلم في النص وكأنها تحمل إرثاً حضارياً مثقلاً فيما يشي ببروز الصراع بين الذات الشاعرة وتراثها التليد:
وأنا حضاراتٌ تولّى عهدُها لتنوءَ بالإرث المُثقّلِ حقبتي
هذا البيت يضعنا مباشرة أمام الذات الشاعرة في قلب صراع حضاري . الذات هنا جزء من حضارة عظيمة زالت قوتها، لكنها لا تزال تثقل كاهله وترسم له حدود رؤيته ؛ لينم عم دلالة حضارية تجسد الصراع بين حضارتين، بل بين حضارة منطفئة ومواطن عاجز عن حمل تراثها أو تجديده.
وفي النص يتجلى صراع العقلانية والروحانية (الغزالي — ابن رشد( بوصفه من أعمق مفاصل الصراع في النص:
تهافتٌ عند الغزالي الذي
بالجهل قيّدني وألغى ثورتي
ولابن رشدٍ لم أصن ميراثه
هنا يستعيد النص الصراع الفلسفي المعروف بين: الغزالي: رمز الروحانية والتصوف والنزعة الإيمانية المغلَّفة بالحذر العقلي. وبين ابن رشد: رمز العقلانية والبرهان والتنوير. والإشارة إليهما ليست عرضية، بل تعبير عن تمزّق الشخص العربي المسلم بين نموذجين حضاريين: النموذج الروحاني الذي قد يكبل – في رأي الشاعر – حركة العقل والثورة. والنموذج العقلاني الذي أخفقت الأمة في حفظه وتطويره.
يقدّم النص صورة حضارية ذات دلالة حضارية مأزومة:
الأمة تخلّت عن إرث العقلانية كما عند (ابن رشد) وتورطت في قراءة خاطئة أو منغلقة للدين (الغزالي كما يراه الشاعر) فوقعت في صراع داخلي عطّل مشروعها الحضاري؛ فدخل النص في صراع مع “التاريخ” بوصفه سلطة مهيمنة؛ فصور النص التاريخ ككاهن؛ ليصبح التاريخ سلطة معرفية قمعية لا مصدر إلهام دال بل قوة تمنع رؤية المستقبل.
فإلى متى التاريخ يبقى كاهناً
يستلّ من ذهني خيوط بصيرتي
الصراع ليس مع الماضي نفسه، بل مع كيفية حضوره. حضور يلغى حرية الفكر، يصادر الرؤى، ويحوّل الإنسان إلى أسير سرديات قديمة سواء سرديات صغرى أو سرديات كبرى. فنشأ صراع بين الماضي الذهبي والواقع المتداعي المتدهور من خلال صور الانهزام:
لأعيشَ في زمن العجائز خائباً
ما بين مزحة عابث أو مزحتي
النص يقارب بين حضارة كانت في ذروة العطاء، وبين واقع متهالك يوصف بأنه زمن العجائز.هذا تصوير حضاري لواقع فقد القدرة على التجديد، واكتفى بعجَزٍ فكري ومجتمعي . النص كله مشبع بالأسئلة الوجودية:
ما زلت أسأل من أنا؟ ولمن أنا؟
أأنـا وجوديٌّ ؟ مثاليٌّ ؟
هنا يبرز الصراع قويا؛ فالذات العربية التي تقف بين منظومات فكرية عالمية، لا تعرف إلى أيّها تنتمي، فتزداد وحدتها وضياعها. لكن النص ينفجر بالرموز الأسطورية ذات الحضارة كسيزيف وسقراط، اللذين وظفهما كرموز فلسفية يونانية يعكس انخراط الذات في صراع حضاري فاعل:
أنا صخرةُ سيزيف
وأنا كسقراط الحكيم أطعتهم
ينتقد الشاعر –عبرهما- واقع حضارته التي تدفعه لرفع صخرة وجوده بلا جدوى، وتجبره على تجرّع كأس الخيبة لا كأس الحقيقة. فالذات هنا معلَّقة بين نموذجي الحضارة الإغريقية عقل سقراط، وعبث سيزيف، وكلاهما يُظهر مدى الاغتراب الذي يعيشه العربي في حاضر بلا بوصلة. وهذا جعله يلجأ إلى الانكسار والتسليم بإرادة القدرفي قوله:
أنا ابن كن والطين والروح التي
لولا خطيئتها انتفت كينونتي
فالذات مخلوقة من عنصرين متناقضين: الطين (محدودية، ثقل، خطيئة)، والروح (نور، إرادة، حرية) وهذا الصراع الميتافيزيقي يؤسس لصراع حضاري أكبر ،حضارة تتأرجح بين القدرية و الإرادة الحرة. كل هذه الصراعات المتعددة الجوانب جاءت نتيجة مشاهدة عينية لحضارة فرعونية شهد لها العالم بأسره. ويبقى السؤال حائرا بلا إجابة!
………………..
👁️ عدد المشاهدات: 201
