Skip links

حمّى الروايات الضخمة: متعة أم موضة؟ بقلم الناقدة/ ناديا عبدالله كعوش


في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر ظاهرة لافتة في عالم القراءة العربي وهي إقبال متزايد على الروايات الضخمة، تلك التي تتجاوز خمسمئة صفحة وتصل أحيانا إلى ما يقارب الألف؛ هذه الأعمال التي كانت تُخيف القارئ يوما ما، أصبحت اليوم محل فخر واعتزاز —لا سيما— حين تُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي بجانب فنجان قهوة وضوء خافت.

 

ما عاد الحجم الكبير للرواية يُنظر إليه كعبء، بل صار يُفهم على أنه علامة على النضج الأدبي والتجربة القرائية العميقة، حتى إن بعض القرّاء يبدون حماسة أكبر تجاه هذه الكتب فقط لأنها سميكة، بصرف النظر عن موضوعها أو أسلوبها، وقد لحقت دور النشر بهذا التوجّه سريعا، فصارت تعتمد ترجمة الأعمال الطويلة وتروّج لها على أنها “رحلة سردية فاخرة”، مستفيدة من ثمنها الأعلى وعوائدها التسويقية —لا سيما—حين تندرج ضمن الترندات المنتشرة على المنصات الرقمية.

 

أعمال مثل “كل أزرق السماء” و “الشيطان والمياه المظلمة” و “الرجل الذي كان يحب الكلاب” أصبحت أمثلة شائعة على هذا النوع من الروايات التي تتطلّب صبرا ووقتا وارتباطا عاطفيا طويل الأمد، وصار من المألوف أن ترى القارئ يختار هذه الكتب لا بدافع الفضول أو الحاجة الجمالية فقط، بل أيضا لإثبات الذات أو للانتماء إلى مجتمع قرائي يبدو أنه يقيّم الكتاب بجحم غلافه أكثر من عمق محتواه أحيانا.

 

لكن خلف هذا التوجه، يختبئ سؤال ضروري: هل نقرأ لأننا نرغب فعلا في الغوص داخل هذه العوالم الطويلة؟ أم لأن الجميع يفعل؟ ثمّة من يُكمل قراءة الرواية الطويلة بدافع من الشعور بالواجب لا المتعة، وهو ما يحوّل التجربة إلى اختبار تحمّل أكثر منها فعل قراءة حرّ، وهنا يظهر نوع من الضغط الثقافي غير المُعلن، حيث يشعر القارئ أحيانا أن الكتب القصيرة أو المتوسطة لم تعد كافية لتُحسب له في ميزان الثقافة.

 

من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن بعض هذه الروايات بالفعل يُعدّ إضافة حقيقية إلى الذائقة الأدبية؛ أعمال تنجح في استثمار الطول لتطوير شخصياتها ونسج حبكات متعددة وبناء عوالم معقّدة، مما يمنح القارئ تجربة لا يمكن اختزالها في مئتي صفحة، لكن في المقابل هناك أيضا روايات منتفخة بلا داعٍ، تتكئ على الحجم كوسيلة تسويقية لا أكثر، دون أن تقدم محتوى يتناسب مع هذا الامتداد.

 

في النهاية، العودة إلى الروايات الطويلة ليست ظاهرة سلبية، بل قد تكون علامة على استعداد القارئ العربي لتجارب أكثر عمقا وتعقيدا، لكن المهم ألا يتحوّل هذا التوجّه إلى معيار فارغ يُحتفى فيه بالشكل على حساب الجوهر؛ فليس كل كتاب طويل عميقا، ولا كل عمل مختصر سطحيا. القاعدة الأهم أن نقرأ لنفهم، لا لنُباهي، أن نختار الكتاب الذي يُشبهنا، لا ذاك الذي يشبه الواجهة.

ومثلما أن القارئ لا يُقاس بعدد الكتب التي قرأها، فإن الرواية لا تُقاس بعدد صفحاتها، بل بما تتركه فينا من أثر لا يُمحى.

…………………………..

👁️ عدد المشاهدات: 7

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag