
للباحثين عن السعادة والسلام النفسي
“ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ”
صدقت يا رسول الله.
الرضا ليس مجرد شعور عابر، بل فلسفة حياة ومنهج يمكّننا من تحقيق السعادة والراحة النفسية من خلال قبول الأمور كما هي.
هو توازن داخلي بين طموحاتنا وواقعنا، وبين ما نريد ونستطيع تحقيقه.
الرضا يعطينا قدرة على التكيف، ويمنح القلب هدوءًا وصفاءً، وهو سر من أسرار السلام النفسي.
هو قوة داخلية تجعلنا نتحرك بثبات، ونواجه تحديات الحياة بحكمة وصبر، ونشعر أن لكل شيء حكمته، حتى الصعاب والمحن.
فهو أرقى وأعمق مشاعر السكينة والاطمئنان التي يحققها الإنسان حين ينسجم مع حكمة الخالق في تدبير الحياة.
في القرآن الكريم، يُثمن الله تعالى أهل الرضا حيث يقول:
﴿فَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ (الأنعام: 119)،
مُشيرًا إلى أن الرضا هو القناعة والتسليم بحكمة القدر، شرط للرفعة في الدنيا والآخرة.
وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل:
“يا ابن آدم خلقتك للعبادة فلا تَلعب، وقسمت لك رزقك فلا تتعب، فإن رضيت بما قسمته لك أَرحت قلبك وبدنك، وكنت عندي محمودًا، وإن لم ترضَ بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأُسلطَنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك فيها إلا ما قسمته لك، وكنت عندي مذمومًا.”
يعكس هذا الحديث عظمة الرضا، إذ هو باب السعادة الحقيقية وراحة النفس من معاناة القلق والتوتر.
الرضا لا يعني السكون أو الاستسلام السلبي، بل هو فعل إرادي يُمارس فيه الإنسان حكمة الصبر والعلم بالغيب، مؤمنًا بأن كل ما يصيبه من خير أو شر هو قضاء الله الصالح لحكمته المطلقة، كما ورد عن الإمام علي عليه السلام:
“من رضي بالقضاء استراح بدنه.”
الرضا الحقيقي هو أيضًا أن نقبل قدر الله، حتى لو بدا لنا من وجه نظرنا البشرية أنه ليس جيدًا أو فيه مشقة، فإيماننا العميق بالله يجعلنا نعلم أنه سبحانه وتعالى لا يبتلي عباده إلا بالخير والحكمة، ونحن لا نعلم الغيب، وما نظنه أحيانًا سوءًا هو في الحقيقة خير مخفي لا ندركه.
يقول الله تعالى:
﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَاۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (الحديد: 22).
لم يكن الرضا قبولًا سطحيًا، بل هو ثقة عميقة بحكمة الله وعدله، حتى حين تبدو الأمور صعبة، لأننا نؤمن بأن الله لا يجلب ضررًا إلا لسبب حكيم وخير خفي.
كما أن الرضا لا يجعلك تنظر للآخرين بحسد أو غيرة أو حقد، لأن قلبك يكون ممتلئًا بالقناعة والطمأنينة، فلا تضطر للمقارنة أو التمني لما يملكه غيرك.
هذا السلام الداخلي هو الذي يمنح الإنسان سعادة نفسية حقيقية وراحة مستدامة بعيدًا عن اضطرابات الغضب والحسد.
هذا التصالح الروحي مع القدر يولد سلامًا داخليًا يرفع الإنسان فوق اضطرابات الحياة، ويُفضي إلى قناعة تسمو بها النفس، وتتيح له أن ينجح في تحمّل الابتلاءات بثبات وهدوء.
فكما يقول القرآن:
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة: 155-156).
إذن، الرضا هو التعبير الحقيقي عن إيمان مكتمل وحسن ظن بالله، حيث يثمر محبة الله ورضوانه، ويكون إعلانًا ليقين العبد بأن ما قسمه الله له هو الخير كله، رغم أن القلب قد لا يدرك عمق ذلك سرًا.
الرضا بهذا العلم والتسليم هو عمق الإيمان وأساس السعادة الحقيقية.
ألا تستحق صحتنا النفسية وراحة أبداننا أن نعجل الرضا منهج حياة؟
نسأل الله عز وجل أن يمن علينا بالرضا ويجعله لنا منهج حياة
ولنتذكر دائمًا أنها مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ …
إلى الجمعة القادمة
……………………..
👁️ عدد المشاهدات: 23