
لقد أتى الواقع التاريخي لحادثة غرق تيتانك عام 1912 ملهما لإنتاج فيلم كوارث رومانسي عام 1997؛ وهو الماضي السينمائي الذي استلهمت منه قصة “تيتانك في خورشيد” أحداثها؛ مازجة بين الواقع والخيال، ومختزلة المكان في قرية صغيرة تطفو على سطحٍ زمني هش، حيث يصبح الماضي السينمائي قوة غازيةً للحاضر، من خلال إعادة صياغة التاريخ كـكابوس متكرر، فالزمن هنا ليس خطيا، والمأساة الماضية التي راح ضحيتها (جاك) تلاحق الحاضر، بخيال يتسق مع جموح واقعٍ غرائبي، فضحايا غرق (تيتانك) أو (طوفان خورشيد) ــ في هذه المرة ــ هم المشاهدون أنفسهم!، ومن ثم فالطوفان ــ ذلك العقاب الجماعي ــ يأتي انتقاما لإهانة الفن والتاريخ، تلك الإهانة التي صورها التحول المفاجئ للمشهد من خالد بن الوليد إلى جاك داوسون، كرمز دال على انتقال القوة من التاريخ إلى الخيال، ومن البطولة الحقيقية إلى البطولة المزيفة، وفي هذا دلالة رمزية على محاولات تشويه الواقع وطمس الهوية؛ وهو ما يدفعنا للإشارة والإشادة باستخدام الكاتب للانزياح وخروج قصته عن المألوف؛ بغية توصيل رسالته الفكرية على نحو جمالي وفني، يعتمد على كسر التوقعات التقليدية لإثارة الدهشة ونقد الواقع من خلال تعميق الرمزية.
وتتجلى مظاهر الانزياح في صور عديدة؛ منها على سبيل المثال:
(الانزياح الزمني) حيث تداخلت الأزمنة (الماضي/ “كثيرون ممن ماتوا”) مع (حاضر الراوي)، و(مستقبل/ “ممن لم يُولد بعد”)؛ جميعهم يتعايشون في صالة سينما واحدة، كما تم تجميد المشهد السينمائي لموت جاك في “تيتانك”، والذي يُعاد تشغيله بتفاصيل مختلفة من الرضا إلى الغضب.
وقد أتي (الانزياح المكاني) من خلال تبدل هوية المكان من قصر الجزيري إلى مصنع نسيج إلى أرض خربة إلى سينما، والشخصيات أثناء العرض تخترق الشاشة وتقفز من الفيلم إلى الواقع (جاك يخرج من “تيتانك” إلى خورشيد).
وهنا يبدو جليا (الانزياح الوظيفي) فالسينما هنا ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل سجنا للشخصيات (جاك يُدرك أنه أسير لدوره السينمائي الذي يريد أن يستبدله)، وتصبح السينما ــ أيضا ــ فخا للمشاهد الذي يقع تحت تأثيرها، ويتماهى ــ تماهيا مرضيا ــ مع أبطالها، على نحو ما حدث للراوي الذي لم يتعاطف مع جاك فقط، بل يصبحه (يتشاركان الذكريات والمشاعر)، ومن ثم يغير جاك سلوك الراوي ويجبره على تمزيق سيناريوهاته الفاشلة.
كما يأتي (الانزياح الرمزي) في اختيار الكاتب للمكان “خورشيد”؛ فالملفت للنظر أن هذا الاسم “خورشيد” بالفارسية يعني “الشمس” في إشارة رمزية إلى الواقع المُشرق الذي يُهدده طوفان الخيال، ومن ثم فالعنوان “تيتانك في خورشيد”؛ يُنبئنا بأن غرق تيتانك سيتكرر في خورشيد، لكن ليس بالماء، بل بطوفان من الذكريات والأوهام، وتتجلى الرمزية أيضا في استخدم الكاتب اللوحة الفنية المرسومة للطوفان كسلاح يسبب كارثة فعلية، ولا يصورها فقط، ثم يأتي مشهد سرقة لوحة الطوفان: “أخذت لوحة الطوفان وقفزت من الشاشة خارجًا من صالة العرض بأقصى سرعتي”، ووصفه لحالة الرعب الذي انتابته: “كنت خائفًا من لقائي القادم مع جاك بعد أن خدعته”، ثم تأتي النهاية المفتوحة التي لا نعرف من خلالها إن كان جاك قد اختفى للأبد أم سيعود، لكننا عرفنا أن الراوي خدعه، بعد أن خُدع به وتماهى معه!.
وهكذا كان الهدف من هذه الانزياحات ليس الإبهار فقط، بل لتفجير التناقض بين الواقع والخيال، والماضي والحاضر، وكشف هشاشة الحدود بين كليهما.
وأرى أن (الانزياح الأبرز) في هذه القصة “تيتانك في خورشيد” يكمن في تحويل السينما من فن سلبي إلى فاعل خارق يملك قوة الحياة والموت، ويعبر عن التماهي الذي لا نسلم من الوقوع فيه في حياتنا، وهو ما يدفعنا لسؤال كاشف عن مدى العلاقة بيننا وبين (الراوي) في هذه القصة:
هل نحن من مشاهدي الفن (سينما أو مسرح)، أم نحن شخصيات في أعمال فنية لم نكتب سيناريوهاتها بعد؟، وهنا أستحضر عبارة الأديب والكاتب المسرحي وليم شكسبير وهي تمثل إجابة عن هذا السؤال: “الدنيا مسرح كبير، وكل الرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح”.
هذا التمثيل في واقعنا الحياتي، وفي هذه القصة على نحو رمزي؛ يدفعنا لتأمل بعض السلوكيات الإنسانية مثل (الإيثار) و(التضحية)؛ فجاك ضحى بحياته من أجل روز، ثم أدرك لاحقا أن تضحيته لم تكن ذات قيمة، فهي نسيته ولم تحفظ ذكراه، وتلك لعمري طبيعة البشر الذين ينكرون الجميل، بل ويسيئون لمن أحسن إليهم وضحى من أجلهم، وهنا يبرز سؤال: هل التضحية دائما نبيلة؟ أم قد تكون أحيانا ضربا من الخبل والغباء وسوء التصرف؟.
هكذا فتحت هذه القصة الباب واسعا أمام القارئ لإعمال الفكر في قضايا إنسانية عديدة، أبرزها تلك القضية المركزية، المتمثلة في الرسالة التي أبدع الكاتب في توصيلها لكل من يعيشون واقعا قاسيا في حياتهم، بأن حذرهم من الاستسلام للأوهام، ليتجنبوا طوفان (العواقب الوخيمة غير المتوقعة).
الواقع نفسه صار ضحيةً لخيال لا يُرحَم
أخيرا وليس آخرا: لا أخفيكم سرا أنني توقفت كثيرا عند (السينما)، التي دفعتنا هذه (القصة) لنقدها والحكم عليها بأنها تشوه التاريخ، وتضحي بالواقع لصالح خيال غرائبي لا يرحم، وتساءلت: أفلا يمكن إسقاط هذا النقد بالتبعية على جميع القصص التي تمزج الخيال بالواقع، بما في ذلك هذه القصة التي بين أيدينا أيضا، وخصوصا إذا تم تحويلها إلى رواية وأُنتجت سينمائيا؟!، ثم حاولت أن أطمئن نفسي بأن النقد هنا جاء لفضح آلية التشويه ذاتها، وأنه ليس موجها للسينما فقط، لكنه موجه للجمهور أيضا.
شكرا جزيلا للكاتب الكبير على ما أتحفنا به من إبداع شيق، متمنيا أن تنال قراءتي المتواضعة في قصتكم الرائعة بعض القبول.
………………………………..
👁️ عدد المشاهدات: 26