مع الرحلة الاستقرائية الأولية لبدايات النسق الروائي ، ومع غرائبية الاستهلال المشهدى ، نستشعر وكأننا نرى تمهيدا ً لعوالم متأرجحة تتبدَّى من وراء حاجز ٍ شفاف ، ولكن به بعض التصدعات الشفيفة التى تجعل الرؤية ضبابية وتتماهى فيها طبيعة تفاصيل الأحداث والشخصيات .. ولكن مع التقدم والأبحار فى سياقات الأحداث تبايَـنتْ وتمايزت الملامح الخاصة لبطلة الرواية ، التى ذُكِرَ فى صـ ١٥ أنها مصرية ، ولكنها فى ذات المشهد تعدو – وهى تفر من أحداث ماضيها القريب – فى برارى قرطبة ، ثم نراها رهينة هذه الحفرة العميقة التى هوت فيها هى والشيخ ” ابن الحسن ” حينما حاول إنقاذها ، ثم ينقذهما الشاعر الجوّال ” أبو بكر ابن عمـَّار ” لتبدأ ارهاصات الحكى الخاص عن الذكريات المؤلمة للبطلة ” اعتماد ” التى ذُكِر اسمها لأول مرة فى صـ ٣١.. وذلك فى تسلسل ٍ تصاعدى عبر الأحداث .
** وقبل الإبحار مع أحداث الرواية ، نتوقف مع الإشارات الهامة للنصوص الخارجية المُصاحِبة للمتن ، والمتمثلة فى العنوان ” السيدة الكبرى ” ، وفى التنويه الخاص على خلفية الغلاف : بالإشارة إلى شخصية بطلة الرواية ” اعتماد الرُميْكِيَّة ” وعلاقتها التاريخية بـ ” المعتمد ابن عـبـَّاد ” .
** هنا يتبادر للذهن الرؤيوى هذا التساؤل من خلال الخلفية المعرفية عن هذه الشخصيات :
** هل سيتعارض الطرح الموضوعى الشمولى للحكى التفصيلى عن الشخصيات مع الرؤية الدرامية للعمل الروائى ؟؟
** وإذا كانت التصنيفات العامة للأعمال الروائية تتراوح ما بين : روايات أمكنة ، وروايات شخصيات ، وروايات أحداث ، وروايات حالات تاريخية بعينها .. فإن هذه الرواية بملابساتها الدرامية تشتمل بالطبع على كل هذه التصنيفات ، ولكن الأمكنة مع الأزمنة المشار إليها فى بدايات أقسام الرواية ، والشخصيات النمطية واللانمطية عبر الأحداث ، كل ذلك يهيئ المتلقى الحصيف للتعامل رؤيويا ً مع طبيعة الدلالات المطروحة عبر الأحداث .
..والتساؤل الماضى – عن شبهة التعارض ما بين السرد التاريخى والروائى – يفتح آفاق الرؤيا للمتلقى للتأمل فى كيفية صياغة أسلوبية السرد الحكائى ، حيث بدأت الكاتبة أحداثها وهى ترتكز فى استهلالات عملها على التشويق والإثارة الحركية المُفجـِّرة لتوالى الأحداث ، فقد تعمدت إيجاد هذه الحفرة العميقة فى البرية ، لتهوى بها ” اعتماد ” ، ثم تطلب المساعدة من الشيخ ” الذى يربط عباءته فى جلبابه ، محاولا ً أن يرفعها بهما ، وفى محاولاته يهوى هو أيضا ً بالحفرة ، ثم ينقذهما ” أبو بكر ” ، ليبدأ تسلسل الأحداث بارتحالهم إلى بيت الشيخ ” أبن الحسن ” لتحكى ” اعتماد ” ما قد حدث لها من مآسى ، منذ بداية غوايتها بالشعر وهى صبية ، وتشجيع والدها لها وتحذيره لها بعد اطلاعه على شعرها الرائع ، ثم حادثة اختطافها وبيعها فى سوق الجوارى ، وحادثة هروبها من قصر سيدها بعد ذلك .
لم يقتصر السرد الحكائى المتواتر على ترقية وتواتر الحراك والصراع الدرامى فقط ، ولكن الكاتبة ارتكزت على التقسيمات للدوال المكانية والزمانية فى أجزاء الرواية ، والتقسيم أيضا ً إلى مقاطع مُرقـَّمة ، وارتكزت الكاتبة أيضا ً على الدلالات والإيحاءات النفسية ، فعلى سبيل المثال : اعتمدت على نبوءة العرافة التى وردت فى بداية الجزء ( ٢ ) من القسم الأول ، حيث استوقفت العرَّافة تلك الصبية ” اعتماد ” وهى تفر من أبيها فلم تقفْ ، فنادتها باسمها فتوقفت لتناجيها قائلة :
” أنت تائهة ، وعليك ِ أن تتوهى حتى تصلى . فى التيه سلوى لكل الآلام ، وفى الخلاء خلاص وصفاء للقلب ، هناك .. حيث السماء بعيدة تجدين من يسمع ويرى ويطيـِّب الخاطر “
تتذكر ” اعتماد ” هذه النبوءة المُلخـِّصة لحالتها وهى تفر أيضا ً من القصر الذى تم بيعها كجارية ٍ لصاحبه ، وتجد بعض السلوى والأمان فى صحبة الشيخ ” أبن الحسن ” وذلك الشاعر الذى هام بها .
** مع استمرارية السرد الحكائى ، يتنوع الأداء ما بين الراوى العليم تارة ً.. والحكى المباشر لذات الراوية عن أزمة اختطافها وبيعها تارة ً أخرى ، ثم هروبها بعد ضربها لأحد الحراس بشوكة ٍ كبيرة فى وجهه .. وهذا التنوع فى أسلوبية السرد الحكائى ، قائمٌ على تقنية ٍ تجمع ما بين المواءمات بين الشخصيات أحيانا ً ، إلى جانب المفارقات الحادة أحيانا ً .
** ومن بدايات المواءمات الوجدانية ، هذا الارتياح النفسى المُتبادل بين ” اعتماد ” و ” أبن الحسن ” ، ومنها أيضا ً ذلكم التبادل العاطفى المُتعجـِّل بينها وبين الشاعر الجوَّال .. ومن المفارقات محاولات ” ابن الحسن ” للحيلولة بينها وبين رحيلها مع ” أبى بكر ” للخوف عليها منه ، ولكنها تصر ، فينطلقان إلى واحة ٍ يستقبلهما أهلـُها كزوج ٍ وزوجة ، ويحاول الشاعر / الغجرى استغلال ذلك فيفترقان ، عندما تتأكد من علاقاته النسائية المتعددة .. ثم تنطلق هاربة ليلقاها مرة ً أخرى ، وتكون هى الفاصلة فى علاقتهما ، إذ يباغتهما بعضُ الجنود الذين يبحثون عن جارية قتلت حارس القصر ، ويسألونه عن علاقتها به فيصمت ولا يدافع عنها بكلمة .. ويتم القبض عليها .
** إلى جانب الاتكاء السردى على المواءمات والمفارقات الوجدانية المتلازمة عبر السياق الدرامى ، نرى أن الكاتبة قد ارتكزت أيضا ً على تقنية المُؤجَّلات المُتعمـَّدة فى كثير من المواقف والملابسات الدرامية ، وأهـمها ما ورد فى الجزء السابع من القسم الأول على لسان الأب : ” علينا أن نرحل من مصر قبل طلوع النهار ” .. وهذا القرار بالرحيل المباغت لم يوجد له ما يبرره – بقوة – طوال الأحداث ، حتى مع تقنية ( الفلاش باك ) المتكررة لاستعادة الأحداث على لسان البطلة فى مصر ، غير أن التفسير الوحيد المُستنبَط من التاريخ الهجرى فى أول الرواية يشير ( مع الوصف الشديد للمعاناة والجوع ) ، إلى مجاعة الشدة المستنصرية التى تعرضت لها مصر فى منتصف القرن الهجرى الخامس فى عهد المسنتصر بالله الفاطمى .
** كما أنه من المؤجلات أيضا ً عدم ذكر تفصيلات وافية عن الاختطاف والخاطفين لـ ” اعتماد ” سوى هذا الوصف : ” الرجل الوسيم ذا اللحية المُحدَّدة ، والعينين الخضراوين مثل حقول البرسيم ، شدنى من تحت ذراعى بقوة وحملنى بين ساعديه ( الأشرار أيضا ً وُسـَمـاء ) تعبير رائع يدل على سمات القراصنة .
** وأيضا ً استمرارية حكاية ” اعتماد ” مع صديقتها ” قمر ” التى حرضتها وشجعتها على الهروب من القصر ، مؤجلة ً بتفاصيلها المستقبلية معها إلى حين .
** .. ومع استمرارية الزخم الوجدانى والحراك الدرامى ، نتوقف مع هذا المشهد الذى يحاور ويناور فيه ” أبو بكر ” حبيبته ” اعتماد ” رغم علمها بخبر زوجته وعلاقاته النسائية ، ويحاول أن يقنعها بأحقيته أن تكون له كمِلـْك يمين .. ولكن الجنود يهجمون عليهما للقبض على ” اعتماد ” ويسألونه عن صلته بها فلا يجيب .. ويقبض عليها الجنود ، ويعبر عن حالتها النفسية ، السطر الأخير فى القسم الأول من الرواية بهذه المفارقة الوجدانية :
” أغمضت اعتماد عينيها ، وطردت روحها من جسدها ، تحاول أن تموت الآن ” .
** القسم الأول من الرواية يؤسس تماما ً لمعظم الشخصيات المؤثرة فى سياقات الحراك الدرامى :
1 – الشخصية المحورية ” اعتماد ” التى مازالت بعد فى طور الطفولة المتأخرة ( ١٦ سنة ) والتى تملـَّكـَتها منذ بدايات الصبا الغواية الشعرية والهوس الجميل لكل ماهو شاعرى ، تمر بكارثة البيع كجارية ، وتهرب لتنجو بحياتها ، وتتمنى طوال الأحداث أن تجتمع مرة ً أخرى بأهلها .
٢ – ” أبو بكر بن عمـَّار ” الشاعر الغجرى الفوضوى الجوَّال ، يريد أن يفوز بها لجمالها الباهر ، ليمتلكها .. وله معها فى مستقبل حياتها جولات أخرى .
٣- ” قمر ” صديقتها التى تتميز بالجرأة واقتناص ما تريد كأنثى مراوغة ، تصل إلى أهدافها بحيلها الخاصة .
٤ – ” عمر ” البدوى الجرئ المغامر الذى يبحث دائما ً عن ما يستشرفه من أخبار ، له دوره الثانوى فى كشف بعض الحقائق المؤجـَّلة .
٥ – ” الشيخ / أبن الحسن ” الأب الروحى لـ ” اعتماد ” والمنقذ لها مرة ً من بعد مرة ، ( يمثـِّل بُعـدا ً هاما ً فى تواصل واستمرارية الصراع والحراك الدرامى عبر الأحداث ) .
** قبل نهاية الجزء الأول وقبل افتراق ” ابن الحسن ” واعتماد ” وعندما يستوقفها الجنود فى السوق بسألونها :
– من أنت ؟ يرد عنها ” ابن الحسن ” – هذه ابنتى .. فيقولون : ولكنها ترتدى ملابس جارية !! .. فيجيب : عطفت علينا إحداهن فأعطتها هذه الملابس .. وينقذها منهم .
** ومع بداية القسم الثانى من الرواية ، وبعد القبض عليها ، يتابعها ، ويتواصل مع موكب ” الرُّمَيكِىّ ” ويساوم الجنود لينقذها .. وتنتقل – مرة ً أخرى – كجارية للسيد / الرُّميكى ( وهذا هو التحوُّل الأهم فى مجريات الأحداث .
** وقبل أن ننطلق فى تحليلاتنا لبعض الشخصيات الهامة الأخرى ، نتوقف مع هذا الملمح الأساسى فى أسلوبية السرد الحكائى :
** هناك إشارات دلالية هامة معلنة ، وأخرى مؤجلة فى طبيعة البناء الروائى ، الذى يتوافق مع الطبيعة الدرامية الحكائية على مستويين :
١ – مستوى سطحى بسيط يعبِّر عن التفاعلات الدرامية المباشرة بين الشخصيات .
٢ – مستوى عميق تحكمه الرؤى الوجدانية والميتافيزيقية للشخصيات الغير نمطية المحركة لباطن النص الروائى .
** وبهذين المستويين نحاول أن نصنف فى المقام الأول شخصية هذه الـ ” اعتماد ” المُحرِّكة لجميع الملابسات الدرامية …
( الكاتبة خَـلـَّقت نموذجا ً فريدا ً لشخصية ” اعتماد ” التى تعتمد على فطرتها النقية لتحقيق ما تصبو إليه من : شـعـر ٍ صـادق ، ومحـبـة ٍ صـافـيـة ، وأمـان ٍ هادئ ، وعـاطـفة ٍ جـيـاشـة ، وهى تـتـواءمـ فى ذلك مع كـل ماهـو جـمـيـل … ( هذا رغم مجموع المآسى التى مرَّت بها ، والتى ستمر بها )
** واللقاء المُرتقب ما بين ” اعتماد ” و ” ابن عبَّـاد ” هو المُحقـِّق دراميا ً لكل ما تصبو إليه نفسها التوَّاقة لكل الخير والمحبة والجمال .
** هيا بنا لنرى الفارق الجوهرى ما بين تفاعلها عاطفيا ً ونفسيا ً مع الصديقين الشاعرين المتناقضين ” ابن عـمَّار ” و ” ابن عـبـَّاد “
** عندما تبادلت الإعجاب بأبى بكر الشاعر الغجرى الجوَّال ، وعندما تفاعلت مع عناصر الطبيعة وقت المطر : أخذت بعض الطين وقذفت به الشاعر الغجرى ( ولم تعرف كـُنه فعلتها هذه وقتها )
** (( هذه إشـارة ضمنية للمفارقة الذاتية للنزعة الطينية وملابساتها ))
** ولكنها .. فى المقابل عندما تبادلت العاطفة الجارفة السامية مع الأمير
” محمد ابن عبـَّاد ” ومع ارهاصات الطبيعة أيضا ً كان التفاعل مختلفا ً :
” فى كل مرة ٍ تراه تشعر بالفراشات تحوم حولها ، وبأن قلبها يتدلـَّى ، والابتسامة ترتسم على كل جزء ٍ من جسدها ، ويسرى بها مزيج غريب من الخدر ِ والنشـاط “.
** (( وهذه إشـارة ضمنية للمواءمة الذاتية مع طبيعة الارتقاءات الروحانية والنورانية ))
** ( وذلك أيضا ً من مهارات التعبيرات الشاعرية الرومانسية للكاتبة من خلال السرد التوصيفى .. ( وهذا متواتر عبر السرد )
** واعتماد قبل ذلك فارقت – بفطرتها السوية – الممارسات الجنسية المفروضة عليها ( كجارية لذة ) وتواءمت مع طهارتها الطبيعية فقررت الهروب من ذلك المصير حتى ولو كلفها ذلك حياتها .
** والخلفية المعرفية تقول : إن التقارب والتآلف بين ” ابن عباد ” و ” اعتماد ” بدأ عندما أعجبت به ، واستمعت له مساجلا ً لصديق ٍ له قائلا ً .. أجِزْ : ” صَنَع الريحُ من الماء ِ زَرَدْ ” .. ( والإجازة الشعرية أن يُكمل الشاعر المعنى ، على نفس البحر.. [ بحر الرمل أصل بحور الشعر ].. وعلى ذات حرف الروى من القافية .. ولما لم يُجِب الشاعر .. أجابت هى : ” أىُّ دِرْع ٍ لـقـتال ٍ لو جَـمَـدْ ” .. فأُعْجَب بها وتطورت العلاقة بينهما .
** ولكن المواءمة الروحية والعاطفية بينهما تجاوزت كل حدود العشق والهيام ، وطلبها للزواج من سيدها ” الرُّمَيكِى ” الذى كانت ترى فى عينيه الهيام والرغبة ولكنه كان يحنو عليها كأب ٍ روحىٍّ لها .. على عكس الملك ” المعتضد ” الذى عاملها بعـد زواجها من ابنه الأمير ( وهى فى منزلة أميرة ) على أنها ( جـارية ) .. وهذه المفارقة الموجعة لم تكن بغريبة ٍ على المعتضد الذى جعل من حديقة قصره مسرحا ً مُفزِعا ً وشاهدا ً على تجَبُّره ، حيث علَّق جماجم معارضيه على أعمدة ٍ تطلُّ عليها نوافذ القصر .
** .. وفى منظومة المُؤجـَّلات المتواترة فى السياق التصاعدى للأحداث ، تتخطى الكاتبة كل ما هو نمطىّ إلى حالات من الأنماط الخاصة ، فعندما يلتقى ” ابن عـبـَّاد ” مع ” اعتماد ” – للتعارف – قبل الزفاف ، تشترط الجارية على الأمير لإتمام زواجها منه أن يساعدها فى البحث والوصول إلى أهلها ، وكأنها تقيم بينها وبينه – إن جاز التعبير – ( عقدا ً سيكولوجيا ً) ليُشكـِّل هذا الشرط حالة ً مؤجـَّـلة تطالبه بإتمامها كل حين ، وهو يراوغها ، ( المراوغة هنا أيضا ً من قبيل المُؤجـَّلات ) رغم تَيقـُّنِها داخليا ً من صدق محبته لها ( وهذه مفارقة أخرى مؤجـَّلة ) .
** ..ومن المفارقات السيكولوجية أيضا ، أن الجو العام فى قصر ” المعتضد ” بملابساته السياسية والاقتصادية والتى تموج بالمكائد والدسائس ، إلى جانب اللهو والمجون ، كان له تأثيره العميق على ” اعتماد ” التى تراقب أحوال زوجها الأمير وتتعجب فى صمت ٍ من علاقته الغرائبية بوالده الملك ، وتحترم صمته وحيرته التى تتبدى عليه كثيرا ً ، ونظرة الحزن البادية فى نظراته ، ولكنها لا تحادثه فى ذلك طالما يحتويها بحنانه وحسن عشرته ، ولكنها تنتظر اللحظة المناسبة لاكتشاف جوانب الغموض فى ذلك .
** .. والروائية جعلت من لغة السرد التوصيفى والحكائى الجيدة ، وسيلة ً للاتكاء الانفعالى فى رسمها للشخصيات ، محاولة ً أن تصل بالمتلقى لحالة خاصة من التفاعل الجاد مع مستحدثات الأحداث ، خاصة ً مع بطلىّ الرواية ، فالأمير ” ابن عـبـَّاد ” الذى رباه والده على الفروسية وفنون القتال المختلفة ، والذى يقود الجيوش ، يعود إلى أحضان حبيبته ” اعتماد ” باكيا ً بين يديها فتندهش لذلك ، وتهدئ من روعه .
** فى ذلكم المشهد تتبدَّى تلك التشابكات النـيـرفـانـية بينهما ، فقد عاد الأمير من إحدى معاركه منتصرا والجميع يحتفلون به .. ولكنه يبكى – بعد ذلك – بحرقة فى حِضنها فتنظر له مستفهمة ومتعجبة ، فيقول : قتلت رجلا ً ، فيزداد اندهاشُها ، فيعلـِّل : ” فى المواجهات أُصيب السيقان حتى أُوقف الأعداء وأُعرقلهم وأحمى جنودى من دون أن تُزهَق الأرواح ، أترك مهمة القتل لغيرى ، لست جديرا ً بها ، لست ُ أهلا ً لها “
** هنا تتجلـَّى هذه الحالة من حالات النيرفانية المعذَّبة بين روحه الشاعرة ، وفروسيته المفروضة عليه كأمير ٍ حالىّ ، وملك ٍ مُستقبلىّ .
** وتتشابك أيضا ً نيرفانية ” اعتماد ” معه عندما تتذكر نجاتها من الرق المُذِل بعد ضربها لحارس القصر وتعبر عن ذلك الكاتبة بتقنية الراوى العليم ، فتقول :
** ” عَـرَفتْ الآن أنها سـبقـته إلى القتل ، ولكنها لم تسبقه إلى هذه الرهافة “
** كان هذا هو البكاء الأول وهو فى أحضانها .. ويأتي البكاء الثانى ومعه الحزن العابر ، بعد موت الملك ” المعتضد ” ويصوِّره السرد الحكائى فى هذا المشهد المعبـِّر :
** ” فى إحدى الليالى وهو يتخطى الحزن بالحب ، مغمض العينين هائما ً فى ملكوته فى أشد لحظاتهما قربا ً ، سبَّ أباه سِبابا ً قذرا ً ، تراجعت وسألته إذا كان بخير !!! … “
** هنا تتبدَّى لها هذه المؤجلات السيكولوجية الغرائبية فى علاقته بأبيه .. الذى قتل غلاما ً قد منحه وهو صبى كأسا ً من الخمر .. ثم قتل أخيه ” إسماعيل ” أمام عينيه – بدم ٍ بارد عندما رفض أن يهاجم ( قرطبة ) .
(( واقعة تاريخية ))
** ..وما أقسى كلمات ” ابن عبـَّاد ” فى هذه المفارقة الوجدانية الحادة ، عندما يقول :
** ” الحل الوحيد الذى تمثـَّل أمامى هو أن أمنحه الحنان الكاذب لأُؤمـِّن نفسى من شرِّه ، هو ملِكى وقائدى وولى الأمر ، لكنه أبدا ً.. ليس أبى “
** .. وتتصاعد وتيرة الدراما النفسية بدلالاتها المختلفة – فى النصف الثانى من الرواية مع تصاعد الحراك الدرامى .. فمع هذين البكائين لـ ” المعتمد ” بين يديها ، تغفر له كل نزواته النسائية التى عايشتها ، والتى سمعت عنها ، وتغفر له – رغم شدة العشق والوله بينهما – زواجه من غيرها مرتين .. ولكنها لا تغفر له عدم وفائه بالشرط المبدئي التى رضيت أن تقترن به من بعده ، وكلما سألته عن أخبار أهلها وبحثه عنهم ، تهرَّب منها .
** ثم تتصاعد موجات هذه الدراما النفسية عند الظهور المزدوج للصديق الشاعر القديم لـ ” المعتمد ” والذى نفاه ” المعتضد ” وحرمه من صداقته ، وهو نفسه ” أبو بكر بن عمـَّار ” والذى يتخذه الملك وزيرا ً له ، والذى يحاول بمكره استعادة ما انقطع من حبال الود القديم ، فتمنعه ” اعتماد ” بقوة ٍ وصرامة .. ويصاحب ظهوره أيضا ً ظهور صديقتها ” قمر ” كجارية ، والتى تمتد أطماعها للتزوج من ” المعتمد ” بعد أن أقامت علاقتها مع الوزير ” ابن عمار ” ، وكل هذا نكاية ً فى ” اعتماد ” .. ورغم هذه التشابكات السيكولوجية تؤثر الملكة أن تكون وفية ً لزوجها الملك الحنون الذى يعاملها برقة ٍ متناهية .
** ولكن مع استمراية التنامى الدرامى ، يصل ” عمر البدوى ” إلى القصر ومعه أخبار عن أهلها ، وعندما تتهيأ لسماع الأخبار يأمرها الملك بالمغادرة لجناحها ، فتستجيب ، ولكنها تُصدَم وتتساءل – بحيرة ٍ زائدة – عن سـر ذلك !!
** .. وبعد انتصاف أحداث الرواية تتسارع وتيرة الصراع الداخلى بالقصر ، المصاحب للصراعات الخارجية ، والتى أفضت إلى قتل ولدها الأكبر ” الظافر ” بالخيانات فى قرطبة .
** كل هذه التداعيات جعلتها تقرر ، بعد يأسها من الوصول لأخبار عائلتها ، أن تفر بأولادها بعيدا ً عن القصر لتراعيهم فى هدوء ٍ وطمأنينة ….. فتستأذن ” المعتمد ” فى أن تقيم فى ( بلنسية ) مع أولادها بغية الراحة النفسية والرعاية الحقيقية لهم ، وعندما تلتقى بـ ” ابن الحسن ” يوصيها بقراءة وحفظ القرآن ، وأيضا ً بأن تسمى ولدها القادم بـ ” أبو هاشم ” .
** ولكنها .. عندما تتفاقم وتتسارع أحداث الصراع ، وبعدما يدخل ” المعتمد ” لقرطبة منتقما ً لمقتل ابنه ” الظافر ” تنتقل إلى قرطبة لتستمتع بأجوائها ، وتلتقى فيها بـالشاعرة ” ولادة بنت المستكفى ” .. ولكنه ( لقاء عابر بصورة مجانية عبر أحداث الرواية ) .. ثم أنها تحذِّر زوجها الملك من خيانات أقرب الأصدقاء له ( وزيره ابن عمـّار ) … وهنا نتساءل : ألم يكن من الأجدر بالملك / الشاعر أن يتخلـَّى أحيانا ً عن طبيعته النيرفانية .. حيث أنه أعطى ثقته ومحبته الكاملة لصديقه ووزيره ، الذى استغلها أسوأ استغلال ، فيقتله أخيرا ً بعد اعترافه له أمام الحاشية بتآمره !!! .
** .. ومجموع الخيانات والتآمرات ( التى طغت فيها المصالح والأطماع الشخصية على الصالح العام أدت إلى سقوط ( أشبيلية ) وتحول ” المعتمد ” و” اعتماد ” وبقية أولادهم من عز الملك إلى ذل الأسر فى ( أغـمات ) على يد المرابطين .
** وتتابعات المؤجـَّلات إلى نهايات الأحداث يصل بنا إلى ( كـسـر أفـق التـوقـُّع ) عند المتلقين ، حينما يزور ” حسين ” أخته ” اعتماد ” فى الأسر وبعد استقبالها له بحنين كل ماضيها المعذَّب ، تخلو بزوجها الأسير لتواسيه وتتصافى معه ليعاتبها وتعاتبه عتاب المحبين على كل ما مر بهما ، لتصل إلى سؤالها الأهم : لماذا حال بينها وبين أخيها حينما جاء يبحث عنها من قبل ؟ فتكون المفاجأة المدوية عندما يخبرها بأنها لم تُختطف ، وبأن أهلها قد باعوها لتجار الرقيق .
** وختاما ً .. نرى أن هذه الرواية بملابساتها الدرامية تشتمل على المتعة الفنية المُتولـِّدة من التفاعلات الوجدانية مع تنويعات الأحداث ، المصاحبة لبعض الإرهاق النفسى المُتبادَل مع طبيعة الدلالات والإيحاءات الزمكانية المتنوعة ، والتى صاغتها الراوية ببراعة السرد الحكائى والوصفى والمشهدى متعدد الوجوه ( تاريخيا ً وفانتازيا ً ) ، إلى جانب توليفة الإيلام النفسى المتواتر بالنص بتشابكاته النفسية المثيرة .
……………..
👁️ عدد المشاهدات: 205
