Skip links

مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ – (اللين وحسن الخلق) – بقلم الشاعر/ أشرف عزمي .. مصر

طوبى لأصحاب القلوب اللينة، وهنيئًا لأحاسنا أخلاقًا. أما أصحاب القلوب الغليظة، فلتكن وقفة مع النفس، ولتكن رحلة تهذيب للقلوب والأخلاق.

الدين ليس مجرد ركعات تُؤدى أو مظاهر تُرى؛ فالله لا ينظر إلى صوركم ولا أجسادكم، بل إلى قلوبكم وأعمالكم. ديننا الحقيقي ليس ما نحفظه باللسان، بل ما تترجمه جوارحنا حين نختلف، ونغضب، ونُختبر.

كم من عابدٍ غليظ، وعالمٍ فظّ، ومتدينٍ يجرح باسم الحق، وهو عن روح الدين أبعد الناس. ما قيمة صلاتنا إن قست قلوبنا على الناس بعدها؟ وما نفع علمنا إن أطفأ فينا الرحمة؟

الدين ليس ما نقوله، بل ما نفعله حين لا نُراقب، وما تقوله أعيننا حين يخطئ غيرنا.

اللين ليس ضعفًا كما يظن البعض، بل هو قمة القوة؛ فالقاسي يندفع، أما اللين فيملك نفسه. القاسي يقهر ليُثبت وجوده، واللين يرفق لأنه واثق من وجوده. اللين ليس تنازلًا عن المبدأ، بل إتقان لفهمه، لأنه يعرف أن الكلمة يمكن أن تكون سيفًا أو بلسمًا، وأن الخيار بينهما امتحان.

القاسي لا يرى إلا أخطاء الناس، أما اللين فيرى ضعفهم فيرحمهم، كما يرحم الله عباده الضعفاء. قال تعالى:

(فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم…)

أي أن اللين نعمة إلهية يزرعها الله في القلوب الطاهرة من الغلّ والكبر. وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه. لهذا قال رسول الله ﷺ:

(إن من أحبّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا).

ليس الأقرب إليه من صام أكثر، أو قام أطول، بل من لان قلبه، ورفق لسانه، وحسن خلقه. حُسن الخلق ليس زينة، بل هو الدين نفسه في صورته العملية. أن تُصلّي ثم تؤذي، تلك عبادة منقوصة؛ وأن تُسبّح ثم تغتاب، تلك روح مشوّهة.

الخلق الحسن هو الامتحان الحقيقي للإيمان، لأنه يظهر في لحظة الاحتكاك، لا في لحظة الخلوة. قال بعض الحكماء: “من أراد أن يعرف قدر دينه، فلينظر كيف يعامل من لا ينتفع منهم”. وقال ابن عطاء الله السكندري: “من لم يُهذّب خلقه، لم يتهذّب دينه”. فالدين الذي لا ينعكس خلقًا مجرد معرفة جافة لا تسقي روحًا ولا تزرع أثرًا.

الإيمان لا يكتمل إلا بالمحبة، كما ورد عن النبي ﷺ:

“لا تُدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تتحابوا”.

فما قيمة الإيمان إن لم يظهر أثره في معاملاتك؟ وما قيمة الدين إن لم يكن سببًا للرحمة، والتسامح، واللين؟ الإيمان الحقيقي ينساب في كلماتك وتصرفاتك ونظراتك، قبل أن يكون شعارات على اللسان.

اللين يحتاج إلى وعي، لأن من اللين ما يكون ضعفًا، ومن الحزم ما يكون رحمة. لكن اللين الحقّ هو اتزان بين الحزم والعفو، بين القوة والرقة، بين الغضب والحكمة. قال أرسطو إن الفضيلة هي الوسط بين الإفراط والتفريط، واللين هو ذلك الوسط الذي لا يميل إلى خضوع يذلّ، ولا إلى غلظة تُنفّر، بل يضع كل شيء في موضعه بسلام داخليّ.

وقال جبران خليل جبران:

“كن لطيفًا، فكل إنسان تقابله يخوض معركة لا تعرفها”.

ومن أدرك ذلك، رقّ كلامه، وخفّ حكمه، وعرف أن كل نفس بشرية تحمل وجعًا لا يُرى. اللين لا يعني أن تُرضي الناس، بل أن ترضي الله في الناس. أن ترى فيهم أثر الخالق قبل أن ترى أخطاء المخلوق.

من رقّ للناس رقّ لله، لأن الرحمة خيط واحد يصل السماء بالأرض. قال ابن عربي:

“الرحمة هي الأصل، ومن ضاق صدره فقد ضاق على الحقيقة”.

وما من قلب امتلأ بالله إلا لان لكل ما حوله. وفي الفلسفة كما في الدين، اللين هو النضج، لأن القسوة انفعال، واللين اختيار. هو أن تملك أن تؤذي، فتعفو. أن تستطيع أن تردّ، فتصمت. أن ترى الحق معك، ومع ذلك تبتسم لمن خالفك، لأنك أدركت أن الاختلاف لا يُفسد إنسانًا خلقه الله على صورته.

اللين لا يُمارَس لتُحبّ، بل لأنه ما يليق بمؤمن يعرف أن الله رفيق يحبّ الرفق. حُسن الخلق هو الوجه الذي يراك الله به في تعاملاتك؛ فإن كان الدين معاملة، فاللين هو أرقى درجات تلك المعاملة.

هو أن تكون في الناس كالماء، يمر في القلوب برفق فيُحييها. أن تترك خلفك طيب الأثر كما يترك النسيم رائحة الورود في الهواء. وأن لا تنسى أبدًا أن الله سيحاسبك لا على كيف وعظت، بل على كيف عاملت.

وفي النهاية، اللين ممرٌّ تمر منه إلى قلوب الخلق، لا مقرٌّ تقيم فيه لتُجمل صورتك. اللين هو مرآة لرحمة الله في الأرض، لا وجهًا مزيفًا للمراوغة. أن تُعامل الناس بقدر ما تريد أن يعاملك الله به، لا بقدر ما تستحقونه في ظنك. الدين يُرى في اللين، ويُقاس بحُسن الخلق، لا بشدة الحجة.

فاجعل خُلقك طريقك إلى الله، لا وسيلتك إلى الناس. واجعل اللين ممرّك إليه، ولا تجعل القسوة مقرّك بين الناس، لأن الله لا ينظر إلى شدتك، بل إلى رحمتك، ولا إلى علمك، بل إلى خُلقك، ولا إلى كلماتك، بل إلى قلبك.

فلتكن لينًا كما كان نبيك، رفيقًا كما كان دينك،

ولتذكر دائمًا أنها ممرٌّ… لا مقرّ.

 

إلى الجمعة القادمة

أشرف عزمي

 

👁️ عدد المشاهدات: 14

Leave a comment

en_USEnglish
Explore
Drag