كيف للكلمات أن تعبر بالقلب لسماوات الحنين!!!
كل ما حوله يبدو كما اعتاد عليه وهو يسير في طريق عودته الى منزله .
إنارة الشارع تنعكس على ملامحه التي لاتخلو من وسامة وكثير من الوجوم ..
هبات من نسمات الصيف تعبث بخصلات شعره الذي علا جانبيه بعض الشيب ..اربعيني محافظ على هندامه وأناقته .
واصل سيره بخطى متئدة ..مطرقا برأسه اذ رأى مظروفا ملقى على الأرض كاد يدوسه ..يبدو أنه وقع من أحدهم للتو ..التقطه وأخذ يقلبه بين يديه..نظر يمنة ويسرة عله يرى صاحب المظروف ..انتظر قليلا ثم فتحه ..أخرج مابداخله .. بضع من
أوراق مرتبة بعناية فائقة .. أعادها الى المظروف ..وأخذت نظراته تجوب الشارع من أقصاه الى أقصاه عله يرى أحدا يبحث عن شيء فقد منه لكن لاأحد ..أكمل سيره بخطى أسرع لما انتابه من فضول بشأن تلك الأوراق .
مر بالمقهى الرابض ركن الزقاق المؤدي لمنزله .
مقهى شعبي يقف شاهدا على زمن مضى وارتحل بصروفه وتقلباته .. بمقاعد وطاولات خشبية متهالكة لو قدر لها أن تنطق لأسمعتك الشيء العجاب من ذكريات سنين وأجيال تطاول عليها العهد .
دخل منزله بأثاثه البسيط لكنه غاية في النظافة والترتيب .. احدى غرفه مرسم صغير علا محتوياته الغبار لطول هجره .
ارتمى على الاريكة ورغم الاجهاد الذي يشعر به الا أنه كان في توق لقراءة مااحتوته الأوراق
اكتشف أنها خواطر أدبية مكتوبة بخط أنيق .. مذيلة باسم :
( ريم فؤاد )
شرع في قراءة النص الأول ;
(*) الألوان لاترى نفسها ..لاتتهجى قوس قزح ..لاتتحسس دندنات الحب في احمرارها ..لاتتوه في رحابة زرقتها ..
هي وجه الحياة .. مرٱة تعكس الانفعالات الكامنة في النفس .. بصمتها تبوح لك بالكثير من الأسرار .. وهي لاتدرك ماتفعله بقلوبنا وكيف تفتتن بها أعيننا تظل فوق السحاب سنابل نور وفي ارتعاشات الزهر أغنيات رواء ووشوشات أريج وجودها يمحو كثيرا من قتامة الحياة .
فدع فرشاتك ترتقي لتصدح أصوات الوانك.. تقطف باقة من نجوم ..تتقلد هالة القمر ..تتفيأ أهازيج الأحلام ..تشرب ضحوات النهارات ..تخاصر أحلام المساء .
……………………..
……………………..
حدق بباب مرسمه الموصد ..شعر برغبة جامحة وشوق عارم لألوانه وفرشاته .
استأنف القراءة :
(*) إذا داعبت خديها بفرشاتك ستشرق فيها روح أخرى ..ستسمع صوت عطرها ..ستحس بقرب أنفاسها ..
(تلك هي الزهرة) فازرعها على أديم أوراقك ستحيا بلاذبول .
……………………….
……………………….
نهض عن أريكته ..قادته خطاه الى مرسمه ..نفض الغبار عنه وهو يشعر بشيء من الندم لطول هجره ..تسارعت الأفكار لمخيلته .. عزم على العودة للرسم .. وبدأ يرتب لوحاته .
………………………
لم يقو على ترك تلك النصوص :
(*) في الذاكرة مرفأ لضوء شفيف يصعد من فتيل (الفانوس) العتيق هائم في مدارات الروح .. أيها الضوء كيف عكست ظلال الراحلين وطبعت صورهم بلارحيل ..
أشعلت بفتيلك ضجيج أماسيهم المثقلة بالنقاء .
كم أتوق الارتحال مع ضوءك لزمن يعكس من وراء الوراء أطياف أحبابنا الراحلين حين كان للدفء قلب يتكلم وعينان تنبضان ..
………………………..
………………………..
أحس أحمد أن في القلب دوحة استطالت بها غصون الشوق وتدلى منها شجن دامع ووجوه من رحلوا تلوح تترى في مخيلته .
عصف عاطفي اجتاح مشاعره ماذا فعلت بي ياريم .. ومن أنت ؟
وكيف للكلمة أن تعرج بالقلب لسماوات الحنين !!!
مازال منهمكا بالقراءة
……………………
……………………
(* ) هل تأملت وجوههم ..هل قرأت خارطة السنين مهرولة في ملامحهم تاركة خريفا مُنحنِ يلتقط ربيع ذكريات لاتشيخ .
أُدن منهم .. سامر وحدتهم ..ليكونوا لك انسا ..كن أنيسا لهم .. منصتا لحكاياتهم باهظات الحكمة والضياء.
………………………
………………………
في هذه اللحظة تذكر أحمد جاره المسن الطيب وأنه في مثل هذا الوقت من كل ليلة في هذا الصيف يخرج أمام بيته باحثا عن شيء من الهواء البارد .
العم صالح ثمانيني متصالح مع نفسه يمتاز بروح مرحة ..تزين ملامحه لحية بيضاء مرتبة ..هادىء السمت ..معتمرا كوفية أنيقة .
القى عليه التحية فرد عليه ببشاشة ودعاه للجلوس معه ..
شرب كثيرا من الحكمة ومن حكايا لاتخلو من الظرافة التي انسابت من حديثه ..وهو يحدق مدهوشا في وجهه الذي شعر كأنه اختزل وجوه من رحل من العارفين .
لم يشبع أحمد من حديث العم صالح
لكنه اضطر لتوديعه .
عاد للقراءة :
…………………….
بقلبك انظر لهذا النسيم الذي اهتزت له أفئدة الغصون ..وطربت له أنداء الزهور ..وانحنى له الاخضرار ..فالعين محال أن تراه .
………………………
مر الوقت سريعا .
فتح النافذة ..كان الفجر قد لاح في الأفق
…………………….
*إفتح نافذتك
أنصت لهذا النور يمتطي أسرجة الصباح ..كأني به ينسكب في حارتنا العتيقة .. يدعُني اليها وقد رحلت طفولتي فتضمني أزقتها الأثيرة .. تسمعني صوت طفولتي الوردي ..تأخذ بقلبي المثقل شوقا برائحة الود الصافي وطعم الفرح الندي ..تطوف بي في ضلوع ذاكرتها الدفيئة المنحوتة في وجداني .
…………………………
ٱه أيتها الريم ..من تكونين ، كأنك معي تنظرين الي .. تربتين أشجان روحي .
نصوص أخرى عاش بين سطورها تركت أثرا كبيرا في نفسه .
عاد للرسم بشغف ..
وفي بضع شهور رسم لوحات رائعة إحداها وقف حائرا وهو يرسمها .. أحس أنها من أصعب اللوحات لكنها الأحب إلى قلبه ..سكب ألوانها من حنايا مخيلته .. صورة لفتاة.
تساءل كثيرا ترى كيف تكون ملامحها ومن أي مروج اكتحلت عيناها ?? إختار لعينيها لونا أخضر ..
بعد أن اكتملت تلك اللوحة ظل يتأملها بعينين فاحصتين حتى شعر بالرضا وأسماها (ريم).
عزم أن يقيم معرضا يضم لوحاته ..إستغرق الأمر بضع شهور ..بدأ بنشر الاعلانات .. أحس بأن صاحبة المظروف ستحضر معرضه .. (ريم فؤاد ) سوف تحضر.
أتم كل مايخص تجهيز المعرض ..قرر أن تتوسطه لوحة ريم .. وبجانبها لوحة تحمل وجه العم صالح ..
وجاء اليوم الموعود ..بدأت الناس من محبي الرسم تتوافد للمعرض ..كان أحمد شاردا ..متسمرة نظراته عند باب المعرض ينتظر شخصا لم يره من قبل لكنه قرأه ورآه بقلبه ..واحساسه يخبره بقوة أنه سيأتي .. الوقت يمر ببطء ..اقترب منه (صحفي )يريد أن يجري معه لقاء.
لكنه اعتذر. بلطف واستاذنه بتأجيل ذلك .. فلم يكن يشغله انذاك سوى رؤية صاحبة الخواطر التي تركت في نفسه كل ذاك الأثر .
اشتدت قبضته على المظروف
ومازالت. عيناه متسمرتين على مدخل المعرض .
وبعد حين
دخلت فتاة .. قادتها خطاها لتلك اللوحة
تسمرت وهي تنظر إليها .
خفق قلب أحمد بقوة ..إقترب منها وعقله يكاد يزيغ ..
يالهذا الشبه !!!
إنها هي بعينيها الخضراوين
سألها بارتباك:
– أنت ريم ؟
أجابت
– نعم وماأدراك هل تعرفني ؟
أشار للمظروف في يده :
– عرفتك من نصوصك ورسمتك من وحي خيالي ..وآن الأوان أن تعرفيني أيضا .
إبتسمت مبهورة ..وتاهت في تفاصيل اللوحة .
…………………………..
👁️ عدد المشاهدات: 36