Skip links

العامية المصرية في صوتها الغنائي – (مجدي نجيب من القصيدة الشعبية إلى الأغنية الحديثة) – بقلم/ عماد سالم

يمثل الشاعر مجدي نجيب أحد الأعمدة الراسخة في تاريخ العامية المصرية، فهو شاعر متفرد جمع بين كتابة القصيدة العامية والديوان الشعري من جهة، وبين صياغة الأغنية الحديثة التي رسخت في وجدان الجمهور من جهة أخرى. وُلد في التاسع والعشرين من مايو عام 1936 في القاهرة، وعاش مسيرة إبداعية امتدت لأكثر من ستة عقود، ترك خلالها بصمة فنية وأدبية متجذّرة في الوعي المصري والعربي. لم يكن مجرد كاتب كلمات لأغانٍ يتغنّى بها المطربون، بل كان شاعرًا بالمعنى العميق للكلمة، ورسامًا بالكلمات والألوان معًا، إذ جمع بين الشعر والفن التشكيلي، ليصبح واحدًا من أبرز الأصوات التي شكّلت هوية الأغنية المصرية الحديثة.

بين الشعر والغناء: رسم بالكلمات

إن التجربة الشعرية لمجدي نجيب تعكس وعيًا خاصًا بفن العامية المصرية، الذي انفتح في الستينيات على فضاءات جديدة من التعبير. فقد استطاع أن يوازن بين عمق التجربة الإنسانية وبساطة المفردة الشعبية، ليصل إلى المتلقي بلا حواجز. ويكفي أن نتذكر كلماته الخالدة التي غناها محمد منير في  (شبابيك) حيث يقول:

سرقت عمري من أحزاني.. سرقته لكن ما جاني.. ولا حد شاف فين مكاني ورا الشبابيك.. دي عينيك شبابيك.. الدنيا كلها شبابيك .

هذه الكلمات ليست مجرد نص غنائي عابر، بل لوحة فنية متكاملة، تتشابك فيها الصورة الشعرية مع الإحساس الإنساني، ليولد نصًّا يحتفظ بحيويته عبر الزمن.

علاقاته الفنية والإنسانية

ارتبط مجدي نجيب بعلاقات وثيقة مع كبار الفنانين الذين شكلوا ملامح الأغنية المصرية. فقد جمعته صداقة خاصة مع عبد الحليم حافظ، الذي غنّى له أغنية “كامل الأوصاف”، وكان العندليب يفضي إليه بأسراره الخاصة. كما ارتبط بذكريات إنسانية مع الفنانة شادية، التي طلبت منه أن يكتب لها أغنية عن الكروان، لينتهي بهما المطاف إلى رائعته الشهيرة “قولوا لعين الشمس”. كذلك تعاون مع فايزة أحمد، هاني شاكر، أحمد منيب، صباح، سعاد محمد، ومحمد منير، ليؤكد من خلال هذا التنوع أن نصوصه قادرة على التكيّف مع مختلف الأصوات والأذواق الغنائية.

الدواوين الشعرية: صوت القصيدة في مواجهة الزمن

إلى جانب الأغنية، أصدر مجدي نجيب عددًا من الدواوين التي تكشف عن ملامح مشروعه الشعري، منها: صهد الشتا (1964)،  ليالي الزمن المنسي  (1974)،  مقاطع من أغنية الرصاص  (1976)، ممكن (1996)، و الوصايا  (1997). هذه الدواوين تمثل الوجه الآخر لتجربته، حيث يتجلّى الشاعر الذي يكتب بعيدًا عن قيود اللحن والغناء، ليعبّر عن قضايا الإنسان والمجتمع والوطن. إنها نصوص تعكس قلق جيل الستينيات وتحولاته، وتوثق علاقة الشاعر بزمنه بكل ما حمله من آمال وانكسارات.

الأغنية الشعبية والبعد الجماهيري

لا يمكن قراءة تجربة مجدي نجيب بعيدًا عن جمهور الأغنية الشعبية الذي صنع معه علاقة متبادلة. فالأغنية عنده لم تكن فنًا للنخبة، بل خطابًا وجدانيًا يخاطب الناس في حياتهم اليومية. لقد أعطى للأغنية الشعبية بعدًا جماليًا جديدًا، حيث صاغ نصوصًا تحاكي تفاصيل الحياة البسيطة، لكنها ترتفع إلى مستوى الشعر الراقي. ومن أبرز أعماله الغنائية التي تكرست في الذاكرة:

كامل الأوصاف (عبد الحليم حافظ)

العيون الكواحل (فايزة أحمد)

قولوا لعين الشمس (شادية)

الحب ليه صاحب (أحمد منيب)

سيبوني أحب (هاني شاكر)

جاني وطلب السماح (صباح)

أوعدك (سعاد محمد)

شبابيك، ممكن، ليلى، حواديت، من أول لمسة، بعتب عليكي (محمد منير)

هذه الأغنيات تمثل بانوراما غنائية متكاملة، جمعت بين الرومانسية والشجن الشعبي والهم الوطني، لتؤكد أن العامية المصرية قادرة على أن تكون صوتًا معاصرًا يواكب التغيرات الاجتماعية والثقافية.

تجربة الحزن الشخصي

في أواخر أيامه عاش مجدي نجيب مأساة إنسانية كبرى، بعد وفاة ابنه الوحيد ياسر في مايو 2023 إثر أزمة قلبية مفاجئة. كان لهذا الحدث أثر بالغ في نفسه، إذ لم يحتمل صدمة الفقد، فرحل بعد أشهر قليلة في السابع من فبراير 2024 عن عمر ناهز الثامنة والثمانين. إن هذه التجربة الإنسانية المؤلمة تضيف بعدًا إنسانيًا جديدًا إلى قراءة إرثه، فهو شاعر عاش بالحب والصدق، ورحل وهو يحمل جرح الفقد الأبوي الذي لا يندمل.

من النصوص الغنائية التي تكشف عن جوهر العامية المصرية في شعر مجدي نجيب، قصيدة  اخد حبيبي يا انا يا اما يا بلاش التي غنّتها فايزة أحمد. في هذه الأغنية تتجلى العامية كصوت شعبي دافئ، يخاطب الأم باعتبارها رمزًا للحنان وللثقافة الشعبية معًا:

زارع في قلبي وردة والنبي يا اما متقطفيهاش…

من صغري معاه أنا يا أما من صغري معاه…

قمري هو شمسي هو عنه ما بستغناش….

هذا النص يجسد البعد الوجداني الحميمي في تجربة مجدي نجيب، حيث تتحول اللغة اليومية إلى شعر، والحوار الأسري إلى خطاب إنساني مفتوح على مشاعر العشق والوفاء.

الفن التشكيلي: الوجه الآخر للشاعر

لم يكن مجدي نجيب شاعرًا فقط، بل كان فنانًا تشكيليًا قدم معارض عديدة، من أبرزها معرض ( شبابيك) الذي استلهم اسمه من أغنيته الشهيرة. هذه التجربة التشكيلية تكشف عن وحدة الإبداع في حياته، حيث تتحول القصيدة إلى لوحة، وتصبح اللوحة امتدادًا للقصيدة. وهكذا نجد أن شعره محمّل بصور بصرية مدهشة، كما أن لوحاته تحمل روحًا شعرية تنبض بالحياة.

إن تجربة مجدي نجيب تظل واحدة من أهم التجارب التي ساهمت في صياغة هوية العامية المصرية في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. فقد كان شاعرًا منح الكلمات أفقًا جديدًا، وحوّل الأغنية إلى مساحة للشعر الشعبي الراقي، وجعل من العامية لغة قادرة على التعبير عن هموم الناس وأحلامهم، دون أن تفقد بعدها الفني أو صدقها الإنساني.

رحل مجدي نجيب، لكن كلماته باقية، تردّدها الأجيال، وتثبت أن الشعر العامي يمكن أن يكون صوتًا غنائيًا جماهيريًا، وفي الوقت ذاته نصًا أدبيًا خالدًا، يكتب لنفسه مكانًا راسخًا في تاريخ الأدب والفن المصري والعربي.

كامل الأوصاف فتني والعيون السود خدوني من هواهم رحت اغني

 اه ياليل اه ياعين

العيون السود، رموشهم ليل

ليل بيحلم باللى غايب

العيون السود، خدوني،

آه يا قلبى ياللى دايب

علموك تسهر تغني

علموك شوق الحبايب

ليه يا قلبى ليه

ليه خدونى ليه

توهونى غربونى العيون السود

قالوا الصبر بحوره بعيده

قالوا شفايفه نايات بتقول تنهيده

وسهرت أستنى

والنجم معايا

دوبنى ودوبنا

فى عيون نسايه

ليه يا قلبى ليه

ليه خدونى ليه

توهونى غربونى العيون السود

قصيدة  ( كامل الأوصاف ) للشاعر مجدي نجيب، كما قدمها عبد الحليم حافظ، تمثل نموذجًا متكاملًا للأغنية العربية التي تجمع بين النص الشعري الرفيع واللحن الجاذب. هي ليست مجرد كلمات غنائية، بل نص شعري قائم بذاته، يحمل في بنيته الفنية بعدًا شعوريًا عميقًا، ويُظهر قدرة الشاعر على صياغة تجربة وجدانية شاملة، تحاكي الجمال والحب والحنين بأسلوب يدمج بين الرمزية الشعرية واللغة العامية القريبة من القلب.

أولًا: البنية اللغوية والنمط الأسلوبي

يمتاز النص بلغة شاعرية تعتمد على التكرار الموسيقي كآلية جمالية أساسية. يكرر الشاعر عبارة “العيون السود، خدوني  وليه يا قلبي ليه ، مما يمنح النص إيقاعًا داخليًا يقوي من أثر الأغنية على المتلقي، ويغري السامع بالتفاعل الانفعالي مع المعنى. هذه التكرارات تعمل كعنصر بلاغي أساسي، حيث تتحول إلى جملة إيقاعية تحمل دلالة وجدانية مزدوجة: الافتتان بالمعشوق، والاستسلام لحالة الحب والغربة العاطفية.

اللغة التي اعتمد عليها مجدي نجيب في النص تنتمي إلى لغة العامية الشعرية التي تجمع بين البساطة والعمق، حيث يستخدم ألفاظًا مألوفة للجمهور مثل ( خدوني ) ،  ( ليه يا قلبي ) . هذه البساطة اللغوية تجعل النص قريبًا من التجربة اليومية للمستمع، بينما البنية التصويرية للنص ترفع من مستوى التجربة إلى بعد شعري جمالي.

ثانيًا: الصور الشعرية والرمزية

تحتل الصور البصرية مكانة مركزية في النص، وأبرزها صورة ( العيون السود) التي تتكرر في النص وتتحول إلى رمز شعري مركزي. هذه الصورة ليست مجرد وصف جسدي، بل رمزية متعددة المستويات: فهي تشير إلى الغموض، والسحر، والشوق، والغربة، بل والتحول الوجداني الذي يصيب الحبيب.

يقول الشاعر : العُيون السود، خدوني، آه يا قلبي ياللي دايب

هنا لا نجد مجرد حالة عشق، بل استعارة عن حالة انصهار الروح في جمال الآخر، وعن الاستسلام الكامل لشهوة الحب والاغتراب.

كما تتداخل في النص صور أخرى مثل ( رموشهم ليل ). هذه الصورة تجمع بين الحسية البصرية والبعد الرمزي: الليل هنا ليس مجرد وقت، بل حالة وجدانية مرتبطة بالغموض والسحر والحنين.

ثالثًا: البنية الإيقاعية والموسيقية

يُظهر النص انسجامًا فريدًا بين البناء الشعري والإيقاع الموسيقي الذي أداه عبد الحليم حافظ. فالتكرار الموسيقي للجمل، ووزن الكلمات، والحفاظ على جمل قصيرة ذات وقع موسيقي، يجعل النص غنيًا بالإيقاع الداخلي الذي يتوافق مع اللحن. هذا التكامل بين النص واللحن هو أحد عوامل نجاح الأغنية وجعلها خالدة.

رابعًا: البعد النفسي والوجداني

تُعبر كلمات النص عن تجربة وجدانية مركبة بين الحب، الغرام، والغربة العاطفية. عبارة ( ليه يا قلبي ليه) تكرّر أكثر من مرة، وكأنها سؤال مفتوح بلا جواب، تعكس حالة الشاعر/المحبّ الذي يعيش حيرة وجدانية، ويبحث عن سبب هذا العشق العميق الذي أوقعه في حالة من التوهان والغربة.

القصيدة هنا لا تتوقف عند كونها مجرد خطاب غنائي، بل تتحول إلى نص شعري مفتوح على القراءة النفسية، حيث يصبح المستمع طرفًا في تجربة الحب التي يرويها النص، ويعيشها من خلال التفاعل الشعوري مع الصور والكلمات.

خامسًا: البعد النقدي في سياق الأغنية العربية

ينتمي نص ( كامل الأوصاف ) إلى تقاليد الأغنية العربية التي تستثمر اللغة العامية لتجعل النص أقرب إلى المتلقي، بينما تبقى محافظة على عناصر الشعر الرفيع. مجدي نجيب نجح في مزج هذين البعدين: البساطة اللغوية والجمالية الشعرية، ليخلق نصًا غنائيًا فنيًا قادرًا على الاستمرار عبر الزمن.

هذا المزيج من الجمال اللغوي، والبناء الإيقاعي، والبعد الرمزي، يجعل من النص نموذجًا متميزًا في مسيرة الشعر الغنائي المصري، ويضع مجدي نجيب في مصاف الشعراء الذين استطاعوا تحويل الأغنية إلى فضاء إبداعي يتجاوز اللحظة الموسيقية ليكون نصًا شعريًا خالدًا.

قصيدة ( كامل الأوصاف) ليست مجرد أغنية عابرة، بل نص شعري متكامل يستحق التحليل النقدي الأكاديمي. فهي تعكس قدرة مجدي نجيب على صياغة تجربة وجدانية متكاملة، عبر لغة عامية بسيطة تحمل أبعادًا جمالية ورمزية عميقة. وهذا ما يجعل النص خالدًا في الذاكرة الفنية، ويؤكد أن الشعر في الأغنية العربية يمكن أن يكون صوتًا شعريًا أصيلًا، يتجاوز اللحظة الفنية ليصبح إرثًا ثقافيًا يخلّد اسم الشاعر في تاريخ الأدب والموسيقى

…………………….

👁️ عدد المشاهدات: 182

Leave a comment

en_USEnglish
Explore
Drag