Skip links

الرواية بين الخدعة والحقيقة: تأمل في فن الابتكار الأدبي – بقلم الناقدة/ ناديا كعوش .. الأردن

منذ أن وُجد فن الرواية، ظل النقاد والقراء في جدلٍ متواصل حول حقيقتها: هل هي انعكاس صادق للواقع أم مجرد بناء لغوي متخيل؟ هنا يأتي قول ماريو بارغاس يوسا ليهز هذا الجدل من أساسه، إذ يصف الرواية بأنها “كذبة أو خدعة”، لكن ليس بمعنى الزيف الفارغ بل بوصفها كذبة خلاقة قادرة على ابتكار عالم موازٍ يمتلك قوانينه وفرادته.
إن الرواية في جوهرها، ليست مرآة تلتقط ما حولها وتعيد عرضه ببرود بل هي عدسة مشوهة أو لنقل خلاقة، تُعيد تكوين الأشياء؛ فهي تنقلنا إلى واقع لا وجود له خارج صفحاتها، ومع ذلك نشعر أنه أقرب إلى حقيقتنا من الحقيقة ذاتها، أليست شخصية مثل “راسكولنيكوف” في رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي أكثر صدقًا في تجسيد صراع الضمير من عشرات الدراسات النفسية؟ أليست “مدام بوفاري” عند فلوبير تجسيدا لأحلام الطبقة البرجوازية الفرنسية وإن لم تكن يوما امرأة من لحم ودم؟
لكن هل تحتمل هذه المسألة الاختلاف؟
بالطبع، نعم؛ فهناك من يرى الرواية شهادة تاريخية أو مرآة اجتماعية أو انعكاسًا سياسيًا لعصرها ويرفض وصفها بـ ” الخدعة” وهؤلاء يجدون سندهم في أعمال مثل الحرب والسلام لتولستوي أو الطاعون لكامو، حيث يظهر الواقع بكل قسوته وتفاصيله، بيد أن حتى هذه الأعمال، وإن التصقت بالواقع فهي لم تكتفِ بنقله بل أضافت عليه طبقات من التأويل والتخييل جعلته يتجاوز حدود “الواقع” إلى “الواقع الفني”.
الاختلاف إذن طبيعي بل هو ما يغذي حيوية الرواية نفسها؛ فالرواية فن متشعب، يزدهر حين يُقرأ من زوايا متعددة: مرة كخدعة جمالية ومرة كوثيقة اجتماعية ومرة كرحلة وجودية، وربما تكمن عظمتها في أنها تتسع لهذه التناقضات كلها، فلا تذوب في مرآة الواقع ولا تنقطع كليًا عنه بل تظل في منطقة التوتر الخلاقة بين “الكذبة” و”الحقيقة”.
إن الرواية في النهاية، ليست مطالبة بأن تكون نسخة مطابقة للعالم بل بأن تمنحنا عالما آخرا موازيا، قد يكشف لنا عن حقيقتنا أكثر مما تفعل الحياة ذاتها.

……………………………

👁️ عدد المشاهدات: 61

Leave a comment

en_USEnglish
Explore
Drag