النية هي السر الذي لا يرى، لكنها تكتب مصير كل عمل.
في عالم يقاس فيه كل شيء بالنتائج والمظاهر، تبهت القيمة الخفية التي تسبق كل فعل وتمنحه معناه.
النية ليست فكرة تمر في البال، بل هي جوهر الدافع، النغمة الأولى في موسيقى الحياة التي يعزفها الإنسان بين الأرض والسماء.
قال النبي ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). حديث قصير، لكنه يرسم موازين الكون كلها، فالفعل لا يقاس بحجمه بل بمقصده، ولا تزن الحركة بثقلها بل بصفائها.
من صلى رياء خرج من الصلاة كما دخل، ومن أعان حبا في الظهور لم يعن أحدا إلا غروره.
أما من أراد وجه الله، فكل عثرة له عبادة، وكل خطوة مهما بدت صغيرة تسجل في النور.
النية صفاء قبل الأداء، وسؤال صادق: لماذا أفعل ما أفعل؟ هل أعمل حبا لله، أم خوفا من الناس؟
هل أقول لأسمَع، أم لأعبر عن حق أؤمن به؟
النية مرآة الروح، تظهر ما يختبئ خلف الأفعال اللامعة.
فكم من عمل بسيط رفع صاحبه درجات، وكم من جهد ضخم سقط لأن النية كانت مشوشة.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ (الزمر: 11).
الإخلاص هنا ليس زهدا في الدنيا فقط، بل حضور القلب في الفعل.
أن تكون نيتك لله يعني أن تكون حاضرا في كل ما تفعل، أن لا تعمل بعين على السماء وأخرى على تصفيق الناس.
الفلاسفة أيضا تحدثوا عن النية بطريقتهم.
قال إيمانويل كانط إن الأخلاق الحقيقية لا تبنى على النتائج، بل على الدافع الأخلاقي النقي.
وقال ديكارت: (النية هي البذرة التي تنبت منها كل حقيقة)، كأنهم جميعا التقوا على أن النقاء يبدأ من الداخل قبل أن يرى في الخارج.
النية تشبه الماء في الإناء، لا يرى لكنه يمنح كل ما حوله الحياة.
إن صفا القلب صفا العمل، وإن تعكر الداخل فسد كل شيء.
لذلك كان الصالحون يقولون: (ربَّ عملٍ صغير تعظمه النية، وربَّ عملٍ كبير تصغره النية). لأن الله لا ينظر إلى صورنا، بل إلى قلوبنا.
صفاء النية لا يطلب دفعة واحدة، بل يزرع كل يوم، يختبر في لحظة غضب، وفي رغبة مدح، وفي انتظار شكر لم يأت.
النية الحقة لا تنتظر ضوءًا يسقط عليها، لأنها تعرف طريقها في الظلام.
هي الطريق الذي يسير في صمت بين القلب والعمل، لا تكتب بالحبر، بل تكتب بالنقاء.
حين نعمل بنية صافية، نتحرر من ثقل التقييم، لأننا لا نطلب سوى الرضا الإلهي، وحين نخفي نوايانا عن الناس نحفظها من الرياء.
قال الله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ (الليل: 20)، كأن كل عمل صادق هو وجهة واحدة لا تتعدد، وجه الله الذي يطهر القلب من الالتفافات.
النية الصافية تجعل الممر إلى الله مستقيما، لا تشوبه الالتواءات.
فمن صلحت نيته لم يضل وإن أخطأ، ومن فسدت نواياه ضل وإن أصاب.
لأن الطريق لا يقاس بخطوات القدم، بل بخفقة القلب.
صفاء النية لا يعني أن تكون معصوما، بل أن تكون صادقا مع نفسك، أن تراجع دوافعك قبل أن تحاسب نتائجك، وأن تعلم أن الإخلاص ممرٌّ لا مقرٌّ، يجاهد فيه المرء كل يوم ليبقي قلبه حاضرا في كل فعل وقول ونية.
فلنصلح قلوبنا لترتقي أعمالنا
ولنتذكر دائمًا أنها ممرٌّ لا مقرٌّ.
…………….
إلى الجمعة القادمة
👁️ عدد المشاهدات: 284
