Skip links

مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ – (الصفح) – بقلم الشاعر/ أشرف عزمي .. مصر

هنيئًا لمن يحمل في جوفه قلبًا متسامحًا، ولا يحمل ضغينة، ولا ينام إلا وقلبه صافي متصالح.

نظن أحيانًا أن الصفح ضعف، وأن من يسامح يفرط في كرامته، لكن الحقيقة أن الصفح قوة لا يقدر عليها إلا من ملك نفسه عند الغضب.

قال النبي ﷺ: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

العفو ليس استسلامًا، بل سيطرة هادئة على نار داخلية لو تُركت لأحرقت كل ما حولها. الانتقام انفعال، أما الصفح فوعي، وبين الاثنين يُقاس اتساع القلب ونضج العقل.

هل نسامح لنهون على أنفسنا أم لنرتقي؟ ربما كلاهما.

حين نسامح، نكسر دائرة الأذى التي تريد أن تجعلنا نسخًا ممن آذونا.

الصفح تحرير لا تنازل.

قال الله تعالى: ﴿وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم﴾ )النور: 22(، كأن العفو ليس مجاملة، بل مرآة لعلاقتنا مع الله؛ فمن أراد مغفرته تعلّم أن يمنحها.

العفو عند المقدرة هو ذروة القوة، لا قاع الضعف.

أن تكون قادرًا على الرد ثم تختار الصفح، هو إعلان أنك أقوى من الانفعال، وأن العدالة لا تتحقق بالغضب بل بالحكمة.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرًا للقدرة عليه).

ومن تأمل وجد أن الصفح لا يغيّر الآخر فقط، بل يغيّرنا نحن أولًا، لأنه يعكس حقيقة قلوبنا وقدرتنا على تجاوز الغريزة إلى فضاء الروح.

الرحمة بالنفس والآخر وجهان لجوهر واحد.

من لا يغفر لنفسه لا يستطيع أن يغفر لغيره، ومن يجلد ذاته لن يرى في الناس إلا ما يؤلم. الصفح عن النفس ليس نسيانًا للأخطاء، بل فهمًا لها، وإدراكًا أن كل سقوط كان بابًا لقيام جديد.

قال الله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ (الروم: 53)، فالغفران يبدأ من الداخل، من مصالحة خفية تجعل الإنسان يرى ضعفه طريقًا للنضج لا عيبًا.

الفلاسفة القدماء رأوا في الصفح مقياسًا لسمو الإنسان.

قال أرسطو: ( الفضيلة هي الوسط بين الإفراط والتفريط )، والصفح هو ذلك الوسط بين الغضب المفرط والخنوع المفرط.

وقال نيتشه: ( من يعرف كيف يغفر، يعرف كيف يكون سيد نفسه )، لأن المغفرة انتصار على الذات التي تريد أن ترد الأذى بأذى.

وكارل يونغ رأى أن من لم يتصالح مع ظله سيظل أسيرًا له، والصفح هو هذا الصلح الداخلي مع وجعنا وغضبنا وعجزنا.

العفو لا يعني نسيان الألم، بل تدارك تملكه لنا، أن نحمل التجربة لا الجرح، وأن نمر من الأذى دون أن نسكن فيه.

قال الله تعالى: ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله﴾ (الشورى: 40)، فالأجر ليس وعدًا دنيويًا، بل سكينة أعمق تُمنح للقلب الذي اختار الصفح طريقًا لا موقفًا.

الصفح يعلّمنا أن نغادر المواقف المؤذية دون أن نحمل حجارتها في قلوبنا، أن نمضي خفيفين لأننا اخترنا الرحمة على الغضب، والنور على الحقد.

المسامحة ليست نسيانًا، بل ترتيب داخلي جديد، نعيد فيه للقلوب توازنها وللأرواح نقاءها. من يسامح يرى العالم أنقى، لأن الغضب غبار والصفح نسمة تمسح الزجاج.

من يسامح لا يفعل ذلك لأجل الآخرين فقط، بل لأجل نفسه التي تستحق سلامها.

فمن يتسم بالصفح يعي أنه في ممرٌّ لا مقرٌّ، يعبُر به من ضيق الانتقام إلى سعة العافية، ومن غشاوة الظلم إلى صفاء النور.

ولنتذكر دائمًا أنها ممرٌّ لا مقرٌّ.

………………..

إلى الجمعة القادمة

👁️ عدد المشاهدات: 21

Leave a comment

en_USEnglish
Explore
Drag