Skip links

مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ – ( الفقد ) – بقلم الشاعر/ أشرف عزمي .. مصر

قد نعتبر كلنا أو بعضنا أن الفقدُ حدثًا عابرًا، إلا أنه في حقيقة الأمر زلزالٌ داخلي يهزّ المعاني قبل أن يهزّ التفاصيل.

الفقد هو تلك اللحظة التي تتوقف فيها الأشياء عن الانتماء، وتبدأ فيها الذكريات في أخذ مكان الحاضر.

هو ليس غياب من نحب فحسب، بل هو الغياب الذي يترك أثرًا لا يُرى، لكنه يُحس… شيئًا ما انكسر داخلك ولن يعود إلى ما كان عليه إطلاقا.

لا تكون المشكلة فقط في أننا خسرنا شخصًا أو شيئًا عزيزًا، بل في أننا خسرنا جزءًا من أنفسنا كان معلقًا به.

الفقد يسلبنا الأمان، ويأخذ منا تلك النظرة المطمئنة نحو الحياة، ليزرع فينا بدلاً منها سؤالًا لا إجابة له: “لماذا؟”

لكن الفقد، كغيره من مشاعر الحياة، ليس مقامًا أبديًا، بل ممرٌّ نُجبَر على عبوره.

ممرٌّ تضيق فيه الرؤية وتتسع فيه الدموع، لكنه في النهاية ممرّ وامتحان

ليست كل الخسارات سواء.

هناك من يغادر، فنفتقد وجوده ولكننا نكمل.

وهناك من يغادر، فنشعر أن شيئًا في العالم قد تغيّر إلى الأبد.

الفقد الحقيقي لا يُقاس بحجم الدموع، بل بحجم الفراغ الذي يتركه الغائب في حياتك.

وقد قال النبي ﷺ حين فُجع  بفقد ابنه إبراهيم:

“إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.”(رواه البخاري)

هذا التوازن النبوي العجيب بين الحزن والرضا، بين الوجع والتسليم، هو ما يجعل الفقد ممرًّا لا مقبرة نُدفن فيها مع من فقدنا.

الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر يرى أن الموت ليس حدثًا مستقبليًا، بل هو “إمكان دائم” نعيشه كل لحظة. وفي كل مرة نفقد فيها شخصًا، نُدفع نحو مواجهة حقيقتنا الوجودية: أن كل ما نملكه قابل للغياب.

لكن الفلسفة لا تعطي للفقد حلاً، بل تُعريه.

تقول لنا : “نعم، الحياة مؤقتة… ولكن هذا ما يمنحها معناها.”
فما يبقى ليس ما نملكه، بل ما منحناه من حبّ، وما تركناه من أثر، وما عشنا به من صدق.

الإسلام لا يُنكر الحزن، بل يحتضنه.

وفي القرآن، تُروى قصص الفقد لا كضعف، بل كمنعطف إيماني عظيم.

  • يعقوب عليه السلام، حين فَقَدَ يوسف، لم يقلق فقط على ابنه، بل على قلبه، فبكى حتى أبيضّت عيناه، وقال:

“إنما أشكو بثي وحزني إلى الله.”

  • النبي محمد ﷺ، فَقَدَ كل من أحب، من زوجه خديجة، إلى أولاده، إلى أصحابه، لكنه لم يجعل الحزن يُعمي بصيرته عن الرضا.

الفقد في الإسلام ليس نهاية، بل انتقال.

والمؤمن يرى أن من فقده، ما زال بين يدي الله، وأن اللقاء مؤجّل لا مستحيل.

“وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون.”

نحن لا نحزن فقط على الغائب… بل على ذواتنا بعده.

في لحظات الفقد، نكتشف أن الجزء الذي يؤلمنا قد لا يكون فقط غياب من نحب، بل النسخة التي كنا عليها ونحن معهم.

نفقد معهم ضحكتنا كما كانت، أماكننا كما كانت، أيامنا كما كانت.
الفقد يسرق منّا ملامحنا القديمة، ويتركنا نبحث عن أنفسنا في ملامح جديدة لم نتعرف إليها بعد.

ولكن… ربما هذا هو المعنى الخفي للفقد: أنه لا يغيّر شكل الأيام فقط ، بل يفتح أبوابًا داخلية كنا نغلقها، ليعيد تشكيلنا من جديد.

طبيعي أن نحزن، أن تنهار للحظات، أن نبكي، أن ننسحب من العالم، هذا حقّنا الإنساني.

لكن أن نبقى هكذا للأبد، فهذا ظلمٌ لنفسك ولمن تحب.

الذين فقدناهم لا يريدون لنا أن نبقى حيث توقفوا، بل أن نمضي حيث كانوا يتمنّون لنا أن نكون.

قال الله تعالى:

“ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه.” (التغابن: 11)

الهداية هنا ليست هداية الطريق، بل هداية القلب في العاصفة.
قلب المؤمن لا ينكسر بالفقد، بل يتعلّم كيف يضيء من بين الركام.

في أعماق الحزن، يولد شيء آخر… يولد الصبر… وتولد الحكمة.
وتولد تلك القدرة العجيبة على التعاطف مع الآخرين، لأنك عرفت طعم الغياب.

ربما كان هذا هو “الأثر” الذي يتركه الراحلون فينا.
أن نُصبح أكثر إنسانية، أكثر رقة، أكثر قربًا من الله.

الفقد ليس ختام القصة، بل أحد فصولها.

نحن لا نُدفن مع من نُحب، بل نُبعث من جديد، بنسخة أقوى، أكثر صبرًا، وأكثر فهمًا للحياة.

فكل ما حولنا، من الأشخاص إلى اللحظات، مجرد عطايا مؤقتة، لا نملكها، بل نُستَودَعها.

وما دامت الحياة نفسها ممرًّا لا مقرًّا، فالفقد جزء من هذا المرور، لا يدوم، لكنه يُعلّمنا.

فدعنا نحزن، نعم… لكن دعنا أيضًا ننهض، نحبّ، ونكمل، لأن في النهاية… من فقدناهم، سبقونا فقط إلى المقر.
أما نحن، فما زلنا في الممر.

طوبى لمن أستقبل الفقد بصبر ورضا

ولنتذكر دائمًا أنها مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ.

……………….

إلى الجمعة القادمة

👁️ عدد المشاهدات: 92

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag