
إنّ من دقيق الفهم وأصله أن نعلم أنّ السُّنّة النبوية ليست في مرتبة دون القرآن، بل هي وحيٌ مثله، إلا أنّ القرآن متلوّ متعبد بتلاوته، والسُّنّة مبيّنة شارحة. وقد قال الله تعالى عن نبيه: “وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى”، فدلّ على أن كل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان وتشريع إنما هو بوحي من الله تعالى، وإن لم يكن آيةً تُتلى.
ولذلك، عندما نُسند إلى السنة أنها “قاضية على القرآن”، لا نقول ذلك تقديماً لها عليه، وإنما بياناً لدورها في الكشف عن مراد الله من النص القرآني الذي قد يحتمل وجوهاً عديدة. فالسنة تحكم بمعناها، وتفصل مجمله، وتخصص عامه، وتقيد مطلقه، وتوضح ما خفي من دلالاته، وتجلي المقصود منه.
فإذا وقف القارئ عند قوله تعالى: “أقيموا الصلاة”، لم يعرف تفاصيل عدد الركعات، وأوقاتها، وصفاتها، إلا بما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، حين قال: “صلوا كما رأيتموني أصلي”. ولم يكن هذا من قبيل الاجتهاد الشخصي، وإنما كان تبليغاً، وإيضاحاً، وإتماماً للتشريع.
ومثل هذا في الزكاة، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الأنصبة، وأصناف الأموال، وشروطها، على نحو لم يُفصّل في القرآن، وكذلك في الحج، والصيام، والطلاق، والمعاملات، والحدود، وغيرها من الأحكام.
وقد عبر العلماء عن هذا المعنى فقالوا: “السنة قاضية على القرآن”، أي أنها تحكم عليه بالبيان والتوضيح، لا بالنسخ أو التعارض، بل هي في الحقيقة شارحة وموضحة لما أجمل، وهو قول الإمام أحمد في سياق الحذر من سوء الفهم: “ما أجسر أن أقول: السنة قاضية على الكتاب، ولكن أقول: السنة تفسر الكتاب وتبينه”.
فالفقيه حين يفهم هذا المعنى يطمئن، ويعرف أن الاعتماد على السنة في استنباط الحكم من القرآن ليس خروجاً عن الكتاب، بل هو دخولٌ في عمقه. أما من جهل هذا الأصل، أو حُرم التذوق اللغوي والفقه الرباني، فقد يعترض على السنة، ظناً منه أن فيها معارضة للقرآن، وهو إنما يُعارض البيان بوهم لا أصل له.
وهنا يقع بعض المتكلمة ممن خاضوا في أصول الدين بعقول منقطعة عن لسان العرب، في أوهام وادعاءات، لأنهم لم يتلقوا الوحي بلغة قريش، ولم يتدبروا مجازه ومبناه، بل نظروا إليه نظر المتفلسف المتعالي، لا نظر العارف المتعبد. فكان منهم من زلّ، ومنهم من أراد الظهور على حساب الحقيقة، ومنهم من كانت له نية سوء خفية، فابتلاه الله بالوقوع في الشبهات، والاعتراض على الوحي، جهلاً أو رياءً أو حقداً.
فإذا أضفنا إلى ذلك جهل بعض الناس بحقائق السنة، وتشكيك الرويبضة الذين يتصدرون الكلام دون علم، أدركنا خطورة الطعن في السنة، أو التقليل من شأنها، أو تقديم غيرها عليها. وما أصدق ما قاله ابن المبارك: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”.
إن السنة قضاء، أي فصل، لا بمعنى الحكم النافذ على القرآن، وإنما بمعنى الفصل في تفسيره. فهي الوحي المبيّن، المكمّل، الشارح. وما أكثر الآيات التي تُقرأ دون أن يُفهم مرادها إلا بنور السنة. فالسنة ليست زيادة على الوحي، بل هي منه، وهي التي بها يُعرف تمام الوحي.
ولولا هذا الفهم، لضاعت الشريعة، وسادت الأهواء، وتلاعب الناس بكتاب الله دون هدى. فالسنة حافظة لمعاني الكتاب، كما أن الكتاب حافظ لنصوصها، ولا يُستغنى عن أحدهما بالآخر.
…………………………….
👁️ عدد المشاهدات: 35