
يا لك من أحمق يا من تهتم بأن يمجدك الناس وتنسى رضا رب الناس
إلى كل من يحب الظهور والمظهرة وأن يتغنى الناس به أصلح ما بينك وبين الله يرضى عنك الله وخلق الله
حبُّ الظهور ليس مجرّد رغبة في التقدير أو الاعتراف، بل هو ظمأ داخلي لا يرويه ضوء، وسباق لا ينتهي، وسراب كلّما اقتربتَ منه ابتعد عنك أكثر ليتركك تلهث وراء هذا الأكثر.
هو شعور يتوارى وراء قناع النية الحسنة، فيبدو في ظاهره سعيًا للإصلاح أو المشاركة أو التأثير، لكنه في حقيقته قد يكون تعلّقًا خفيًا بالأنانية، واستسلامًا لرغبة قديمة في أن يُشار إليك بالبنان.
كثيرون لا يطلبون المال، ولا السلطة، لكنهم لا يقدرون على الحياة بعيدًا عن عيون الناس. يريدون أن يُذكروا، أن يُصفّق لهم، أن يُقال عنهم، حتى لو كان ما يفعلونه في ظاهره للناس… أو لله.
حبُّ الظهور لا يولد دفعة واحدة، بل ينمو على مهل، كالأورام الصامتة، يتسلّل مع الأوقات الطيبة، والنجاحات الصغيرة، والكلمات الطيبة، يبدأ بالإعجاب، ثم يتحول إلى انتظار، ثم يتحوّل الانتظار إلى احتياج.
المشكلة ليست في أن يريد الإنسان أن يُحَب، فذلك فطرة، ولكن المشكلة أن يتحوّل ذلك الحب إلى ميزان لقيمته، ومعيار لوجوده، ومحرك خفي لكل قراراته.
هنا يصير الإنسان عبدًا لرأي الآخرين، وأسيرًا في سجن الصورة، ولو كان حرًّا من الخارج.
يظهر، لكنه من الداخل هشّ، يبتسم، لكنه ينتظر تصفيقًا، يتكلم، لكنه لا يسمع، يعمل، لكن لا لوجه الله، بل لوجه الجمهور.
وإن غاب الجمهور، غاب الهدف.
وقد حذّر النبي ﷺ من هذا الخطر، حين قال: “أخوفُ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغر”، قالوا: وما هو؟ قال: “الرياء”. وهو أخوف لأنه خفيّ، يتسلّل من أبواب العبادة ذاتها، لا من أبواب المعصية، يأتيك وأنت تصلّي، أو تتصدّق، أو تكتب، أو تخطب، فيهمس لك:
انظر، الناس تُعجب بك.
هناك خيط رفيع بين الإخلاص والرياء، بين أن تعمل لله فيراك الناس، وبين أن تعمل للناس فتقول لنفسك إنك تعمل لله.
كلّنا معرضون للزلل، لكن الصادق من يحاسب نيّته كما يحاسب عمله، ويخاف على قلبه أكثر مما يخاف على سمعته.
الظهور ليس مذمومًا لذاته، فقد ظهر الأنبياء، وعُرف الصالحون، وخلّد الله أسماءً في كتابه، لكنهم لم يطلبوا الظهور، بل أخلصوا، فجعل الله لهم نورًا.
الفرق كلّه في النية.
من طلب الظهور لذاته هلك، ومن جاءه الظهور من غير طلب، فذاك فضل الله.
قال أحدهم: “اعمل في الخفاء، فإن قُدّر لك أن تُرى، رأيت بنور الله، لا بنور الناس”.
وقال ابن عطاء الله السكندري: “ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن، لا يتم نتاجه”. من لم يُجرب طمأنينة الخفاء، لن يعرف حقيقة الظهور.
حبّ الظهور لا يُفسد النوايا فقط، بل قد يفسد حتى الرزق، فيدفع صاحبه إلى التكلّف والبذخ، إلى أن يُنفق ماله لا في حاجة حقيقية، بل في صناعة صورة مزيفة.
تراه يشتري ما لا يحتاج، ويمتلك ما لا يستخدم، ويعيش فوق طاقته، فقط ليُقال عنه، لا ليطمئن هو.
يبدّد المال في المظاهر، في الولائم، في الملابس، في المناسبات المفتعلة، وربما في السفر أو الترفيه المبالغ فيه، لا حبًا فيها، بل حبًا فيما قد تقوله أعين الآخرين.
يتحول ماله إلى أداة إثبات، لا وسيلة عيش.
وحينها، يفقد المال بركته، لأن الإنفاق خرج من مساره: من الكفاية والكرم، إلى التباهي والتكلف.
الله وصف المبذّرين بأنهم إخوان الشياطين، لا لأنهم أنفقوا، بل لأنهم أنفقوا في غير موضع. فمن يجعل حب الظهور دافعه في الصرف، لا يضيع ماله فقط، بل يضيع وعيه. ويختلط عليه الكرم بالإسراف، والذوق بالاستعراض، والاحتياج بالادّعاء.
وفي اللحظة التي يُصبح فيها “الناس” هم المعيار لكل شيء، تتحول النعم إلى أغلال.
لأن ما تفعله لا يُرضيك، بل يُرضي غيرك، وما تُنفقه لا يُغنيك، بل يُشبع صورة لم تكن يومًا أنت.
كل ما في الدنيا معرضٌ للغياب، والظهور واحد منها.
قد يُذكرك الناس يومًا، ثم ينسونك في اليوم التالي.
قد تحصد آلاف المتابعين، ثم تمرّ في قلوبهم مرور الكرام.
قد تملأ الدنيا ضجيجًا، لكنك في السماء غير معروف.
وقد تعيش صامتًا، خافتًا، بعيدًا عن الأعين، لكن دعاءً خرج منك في جوف الليل، رفعك إلى مقام لا تبلغه الأضواء.
الله لا يسأل عن عدد المشاهدات، بل عن الصدق في اللحظة التي لم يرك فيها أحد.
النية هي الوزن، والسرّ هو المعيار.
حب الظهور يفقد الإنسان عفويته، يقيده بقوانين التصنّع، ويجعله يعيش كما يُتوقع منه لا كما هو، يصبح نسخة مما يُراد له أن يكون، لا كما خُلق ليكون.
يتوقف عن النمو الحقيقي، لأنه مشغول بالنظر إلى مرآة الآخرين، لا إلى مرآة قلبه.
يتكلّف، يتجمّل، يتصنّع الحكمة، يخشى السقوط، لأنه لا يملك رفاهية الخطأ أمام جمهور ينتظر دائمًا صورة مثالية.
لكن الله لا ينظر إلى صورنا، ولا إلى أقوالنا المنمّقة، بل إلى قلوبنا.
في النهاية، ما نملكه في الظهور كلّه لا يتعدى كونه ممرًا.
ضوء يسطع، ثم يخفت.
اسم يُذكر، ثم يُنسى.
شهرة تملأ الأفق، ثم يطويها الغياب.
لكن ما يبقى في “المقرّ” هو ما كان لله وحده، في لحظة خفية، بعمل خالص، بنيّة صادقة، ولو لم يره أحد.
ما نُريده حقًا، ليس أن نُعرف هنا، بل أن نُذكر هناك، في السماء، أن يُقال عنّا في الملأ الأعلى: “أحبّ فلان، فاذكروه”، أن يرضى الله، وإن سخط الناس، أن يرى الله قلوبنا، فيجد فيها صدقًا، لا بحثًا عن التصفيق.
فدع حبّ الظهور يمرّ، لا تجعل منه مقامًا تبني عليه هويتك، ولا تجعل عيون الناس حكمًا على قيمتك.
لا بأس أن تُذكر، لكن الأهم أن تُقبل، ولا بأس أن تُرى، لكن الأجمل أن تُستر، ولا بأس أن تحب أن يُحسن الناس الظن بك، لكن الأهم أن يحسن الله ختامك.
فمن عُرف في الأرض ثم نُسي، قد لا يُسأل عنه أحد، لكن من عُرف في السماء، لا يُضيعه الله أبدًا.
فحب الظهور… ممرٌّ يفتن، فاحذره أن يصير مقرًّا تُقيم فيه، في الوقت الذي طُلب منك أن تمرّ منه خفيفًا، صادقًا، عابرًا… إلى حيث النور لا يُقاس بعدد المتابعين، بل بنقاء السريرة، وإخلاص الطريق.
ولنتذكر دائما أنها ممرٌّ… لا مقرّ.
إلى الجمعة القادمة
👁️ عدد المشاهدات: 61