
في طريقنا العابر في هذه الدنيا، حيث لا شيء يدوم ولا أحد يُقيم إلى الأبد، يظل الصدق العلامة النقية على الطريق، بينما الكذب هو الغبار الذي يعمي العيون ويضلّل القلوب عن وجهتها.
الكذب ليس مجرد زلة لسان ولا حيلة صغيرة نلجأ إليها حين تضيق بنا السُبل، بل هو تشويه للحقيقة وخيانة للثقة وخلخلة للبنيان الروحي الذي يُفترض أن يُشيّد في هذا “الممر” نحو الآخرة.
الكذب، ذلك الطيف المظلم الذي ينسج في ظلال النفس البشرية، هو فعل مألوف لكنه محير في أثره وتأويله.
نحن في رحلة عابرة عبر هذه الحياة، حيث الحقيقة ليست مجرد كلمة بل هي أساس الثقة التي تبني جسورنا مع أنفسنا ومع الآخرين.
الكذب إذن هو التبرير الزائف والتشويه الذي يضيع طريق الصدق والوضوح، ولكنه أيضًا مرآة تعكس ضعف الإنسان وتناقضاته وصراعه مع ذاته.
الكذب ليس مجرد لفظ أو حادثة عابرة، بل هو انشقاق داخلي بين ما نريد أن نكون عليه وما نحن عليه فعلاً.
هو رفض للحقيقة التي تؤلمنا أو تخيفنا، أو تبدو مهددة لكرامتنا أو مكانتنا.
الكذب لا يُغلق باب الحقيقة فقط، بل يفتح أبوابًا كثيرة للظلم، والشك، والقلق، وتآكل الثقة بين البشر.
القرآن الكريم يربط بين الكذب، والضلال، والفساد في الأرض، والحديث النبوي يربط بين الكذب وخراب القلوب.
والقرآن الكريم أيضا لم يُعامل الكذب كذنب عابر، بل قرنه بالنفاق والكفر في مواضع عدة، فقال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾
(النحل: 105)
وفي موضع آخر، يربط الله بين الكذب والضلال:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾
) غافر: 28(
القرآن لا يُدين الكذب كفعل فقط، بل يفضحه كصفة جوهرية تلازم أصحاب القلوب المريضة وتمنعهم من نيل الهداية.
ويقول النبي ﷺ:
“وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار… “
)رواه البخاري ومسلم(
وفي الحديث المشهور عن صفات المنافق:
“آية المنافق ثلاث… وإذا حدّث كذب…”
) رواه البخاري ومسلم(
الكذب في السنة ليس مجرد سلوك مرفوض، بل هو علامة نفاق تهدم البناء الإيماني من الداخل.
كما يقول غاندي:
“الخطيئة التي يرتكبها الإنسان عندما يكذب لا تؤذي الآخرين فقط، بل تقتل روحه من الداخل.”
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يرى أن الإنسان “محكوم بأن يكون حرًا”، وهذا التحرر مسؤولية ثقيلة؛ وهنا قد ينشأ الكذب كوسيلة للهروب من الحرية الحقيقية التي تفرض علينا مواجهة أنفسنا بصدق.
والكذب هنا محاولة للهروب من الواقع، لكنه في النهاية يثقل كاهل النفس ويزرع بذور القلق والتوتر، لأن الحقيقة تبقى حاضرة ولا تختفي.
عندما نكذب، لا نخدع الآخرين فقط، بل نُخدع أنفسنا أولًا، فالكذب يهدم السلام الداخلي ويفقدنا الشعور بالأمان النفسي.
وهذا يعكس بُعدًا إنسانيًا عميقًا: فالكذب ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل هو مرض روحي يفقد الإنسان قدرته على الإحساس بالحقيقة والجمال والسلام الداخلي.
يقول الفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون:
“الكذب هو الهروب من المواجهة مع الذات، لكنه في النهاية سجن تبنيه بنفسك.”
في العلاقات الإنسانية، الكذب هو السُمّ الذي يضعف الثقة ويقوّض الروابط الاجتماعية، وهي عماد أي مجتمع سوي، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، والثقة المتبادلة هي ما تبني الحضارات.
حتى وإن كنا نسعى إلى الحفاظ على توازن فلسفي وإنساني، فلا يمكن تجاهل الأبعاد الروحية التي تعالج مسألة الكذب بعمق.
في كل الأديان السماوية، الكذب مدان لأنه يُفسد روح الإنسان ويُبعده عن الصدق مع الخالق ومع ذاته ومع الآخرين.
في كل لحظة نُقدِّم فيها خيارًا بين الصدق والكذب، نحن نختار بين الحرية والعبودية، بين السلام والاضطراب، بين السلامة والتخريب.
الصدق يتطلب شجاعة، لأنه قد يُفضي إلى مواجهات أو خسارات مؤقتة، لكنه في النهاية يُفضي إلى سلام دائم وثقة مستدامة.
قال نيتشه:
“أعظم تحدي للإنسان هو أن يواجه الحقيقة، لأنها تُحرره، لكنها تُرهقه أيضًا.”
في هذا الممر الذي لا مقرّ فيه، نحتاج لأن نُعلّم أنفسنا أن الصدق ليس خيارًا بل ضرورة.
ليس فقط لأن الدين يأمر به، ولا لأن الفلاسفة يحترمونه، بل لأن النفس الإنسانية تسعى إليه كما تسعى إلى الماء والهواء.
الكذب يبني جدرانًا وهمية حولنا، بينما الصدق يفتح نوافذ الأمل، ويمنحنا الطمأنينة، ويُعيدنا إلى جوهر إنسانيتنا.
فلنختر الصدق، في أفعالنا وأقوالنا، مع أنفسنا ومع الآخرين، فبصدقنا نحيا أحرارًا، وبكذبنا نصبح أسرى لما نحكي من كذب.
الصدق ليس مجرد فعل أخلاقي، بل هو النور الذي يشرق في ظلمات الذات، هو البلسم الذي يشفي جراح التمزق الداخلي.
حين نكذب، ننسج حول أنفسنا شبكة من الظلال، نصبح غرباء عن جوهرنا، نبحر في محيط من الضياع بلا بوصلة ولا مرسى.
الصدق، رغم حدته وألمه، هو الصدى الحقيقي لروحنا، هو الميناء الذي نرسو فيه بسلام بعد رحلات التيه واللجى.
إنه ليس فقط كشفًا للحقيقة أمام الآخرين، بل هو التقاء مع الذات، حيث يذوب التمزق ويتحد الإنسان مع وجوده في وحدة متناغمة.
في ممر الحياة المتشابك، حيث تلتقي الحقيقة والموت، يضيء الصدق كنجمة ثابتة تهدي العابر في ظلمة اللايقين.
اختيار الصدق هو قرار الحرية، انعتاق من سجن الأكاذيب، ورحلة نحو السلام الذي يملأ الصدر ويهدئ العاصفة.
فلنسمح لأنفسنا بأن نكون مثل الماء الصافي، لا يختبئ وراء زيف الأمواج، بل يعكس السماء في صفائه ويعانق الأرض في تواضعه.
ففي هذا الممر الذي لا مقرّ له، يكون الصدق وحده جسر العبور نحو الذات الحقيقية، نحو الحرية المطلقة، نحو السلام الأبدي.
ولنتذكر دائمًا: أنها ممرٌّ… لا مقرّ.
إلى الجمعة القادمة
أشرف عزمي
…………………
👁️ عدد المشاهدات: 21