Skip links

مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ – (الفرض يقتل الحقيقة) – بقلم الشاعر/ أشرف عزمي .. مصر

 “كم مرة ظننّا أننا نعرف الحقيقة، لكننا كنا نحيا في وهم صنعناه بأيدينا؟”

نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما نفترضه.
نحن لا نسمع الكلمات، بل نُسقِط عليها زحام تَخَيُلنا.
نتعامل مع الآخرين، لا كما يتصرفون، بل كما نتصوّر نواياهم.
وهكذا، نصنع لأنفسنا سجنًا من الافتراضات، ثم نعيش فيه بإرادتنا.

الفرض، حتى لو كان دقيقًا، يظل افتراضًا، لا حقيقة.
قد نقول في لحظة غضب: “أنا متأكد أنه يقصد كذا”، وقد نبني على هذه “اللحظة” قرارات مصيرية، غضبًا، خصامًا، وربما قطيعة.
لكن الحقيقة أن هذا التأكد هو فقط يقين داخلي هش، نشأ من ظن، لا من علم.
والمؤلم أن هذه الظنون، مهما بدت واقعية، قد تُطفئ علاقات، وتدمر ثقة، وتخلق جراحًا لا تُرى.

ننسج من خيوط الظنون قصة متكاملة: البدايات، والنهايات، والانفعالات، وحتى الألم…
ثم نصدّقها.
وهكذا، يموت جوهر الحقيقة تحت ثقل الفرض.

الفرض يبدو أحيانًا كذكاء، كأننا “فهمنا اللعبة” قبل أن تُشرح لنا.
لكن في الحقيقة، الفرض ليس فهماً… بل استعجال، ورغبة دفينة في التفسير قبل الاستماع، وفي الإدانة قبل الفهم.

“بينما قد نفترض نية سيئة، قد يكون هناك سبب آخر بسيط وغالبًا ما يغيب عنا.”

نقول لأنفسنا: هو يتجاهلني ، تغيّر، ما عاد يهتم.

ثم نُغلق الباب على كل تفسير محتمل.

ربما كان مشغولًا، متعبًا، فاقدًا للطاقة… لكننا لا نترك للحقيقة فرصة أن تتكلم،
نحن بالفعل قررنا ما الذي حدث، بل وتصرفنا على هذا الأساس.

نقول: “هو غاضب مني.”

نغضب بدورنا، أو نحزن، أو ننكمش.

ثم نكتشف لاحقًا أنه فقط كان مرهقًا، أو مشتتًا، أو متألمًا من شيء لا علاقة له بنا.

وهكذا… نضع النقاط على الحروف في جُمل لم تُكتب بعد.

الفَرض شعور لا ينتظر تأكيدًا، بل يتغذى على قلقك، على تجاربك السابقة، على حساسيتك المفرطة.

نقول لم يدعوني إلى مناسبة ما: لا يريدني، استبعدني، نسيني عن قصد.

ثم نتصرف بناءً على الفرض… نخاصم، نغضب، ننسحب. بينما قد يكون هناك ظرف لم نُدركه: عدد محدود، خطأ ما ، ظرف صحي، نسيان عابر… لكنه صار لا يُغتفر، لأننا افترضنا “النية”.

تعلّمنا أن نكون قضاة قبل أن نكون مستمعين، أن نستبق الحقيقة بحُكم مسبق،
أن نملأ فراغات الكلام بما يناسب توقعاتنا، لا بما قيل فعلًا، وننسى، في خضمّ هذه التراكمات النفسية، أن هناك دائمًا احتمالًا بسيطًا: أننا مخطئون.

فنحن أحيانًا لا نتعامل مع الناس كما هم، بل كما تكونت لدينا أحكام قديمة عنهم.

قد ترى في وجه شخصٍ ما تعبيرًا عابرًا، وتفسّره كبرود أو رفض،
بينما هو ببساطة… سرح.

هكذا نبني حياة داخل عقولنا… ثم نحاسب الآخرين عليها.

في الفلسفة  يُقال إننا لا ندرك الواقع، بل نعيشه من خلال وعينا به.
كما قال إيمانويل كانط، “نحن لا نعرف الأشياء في ذاتها، بل كما تظهر لنا عبر منظومة وعينا،” وكذلك الأشخاص، والمواقف، والعلاقات.

ويقول سقراط  “أول خطوة نحو الحكمة هي أن تعرف أنك لا تعرف.”

لكن أغلب مشكلاتنا تأتي من أننا نظن أننا نعرف.

نظن أننا نقرأ الناس مثل كتاب مفتوح، نظن أن رد الفعل يدل بدقة على الشعور، وأن المشهد يشرح النية.

لكن الحقيقة؟ أن النية لا تُرى، وأن التصرّف أحيانًا لا يعكس القلب، بل يعكس لحظة.

وحتى لو كان الفرض “صحيحًا” في ظاهره، فهو يظل خاطئًا في جوهره، لأنه لم يأتِ عن فهم، ولا عن سؤال، بل عن استعجال وتفسير ذاتي.

أن تصل إلى استنتاج دون تحقق، حتى لو طابق الواقع… فأنت لم تعرف الحقيقة، بل صُدفة،
وهذا لا يبرر أن تبني عليه مشاعر أو قرارات.

ويقول الله تعالى:

“يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن، إن بعض الظن إثم) “الحجرات: 12 (

الله لم ينهَ فقط عن “الظن السيئ”، بل عن كثير من الظن، لأن الظن يبدأ صغيرًا… وينمو بسرعة.

وفي الحديث:

“إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) ” متفق عليه (

لماذا هو أكذب الحديث؟

لأن الظن يخدعك، يقنعك، ثم يتركك تواجه النتائج.

لأنه حديث داخلي… صوته يشبه الحقيقة، لكنه ليس منها.

الفرض يريح العقل… ويرهق القلب

نلجأ للفرض أحيانًا لأننا لا نطيق الغموض، فنُسرع في إكمال “الصورة الناقصة” مهما كان الثمن، لكن الثمن الحقيقي ندفعه من علاقاتنا، ومن سلامنا الداخلي.

حين نعيش في فرض مستمر، لن نرى إلا ما يدعم افتراضنا، كل تصرّف يصبح “دليلًا”،
وكل سكوت يصبح “تأكيدًا”، وكل اختلاف صغير يتحول إلى أزمة.

من الرقي والنضج الحقيقي أن نسألأ بدل من أن نفترض، يمكننا أن نقول “هل قصدت كذا؟” أو: “كنت مستغرب سكوتك، هل كل شيء بخير؟” هذا لا يُنقص منك، بل يرفعك.

لأن السؤال ليس ضعفًا، بل شجاعة في مواجهة الرواية التي كتبها عقلك.

الحياة مليئة بالمواقف العابرة، بالتصرفات غير المقصودة، بالأشخاص الذين لا يُجيدون التعبير، وبالأرواح التي تتألّم في صمت.

وإذا ظللنا نبني أحكامنا على الفرض، فسنخسر الحقيقة دائمًا،
حتى لو كنا نُقسم أننا نمتلكها.

الحقيقة لا تُكتشف بالافتراض، بل بالنية الصافية، بالتروّي، بالسؤال، بالحب.

وكل ما عدا ذلك، مجرد ممرّ يمرّ بنا… لا يستحق أن نسكنه.

نُحمّل الكلمات أوزانًا لا تحتملها، ونتعامل مع الآخرين ليس كما هم، بل كما نعتقد أنهم.
وننسج من هذه الظنون قصصًا متكاملة، نعيشها ونتفاعل معها وكأنها الحقيقة ذاتها.

فأتمنى أن نبني في أرواحنا جسور للمحبة والتواصل لا للتفرقة .

 

ولنتذكّر دائمًا:إنها مَمَرٌّ لا مَقَرٌّ.”

 

إلى الجمعة القادمة

أشرف عزمي

👁️ عدد المشاهدات: 22

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag