الباحثون عن راحة القلب وسكينة الروح… ألَا من رجعة.
السكينة ليست غياب الحركة ولا الفراغ، بل حضور داخلي ثابت وسط الفوضى، هدوء القلب بعد العواصف، ونور الروح حين يغشى الظلام.
كثيرون يبحثون عن السلام في العالم الخارجي، بينما الحقيقة أن السكينة تُزرع في الداخل، حيث لا تهزها الرياح ولا تزلزلها الأصوات.
قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28)
فالسكينة لا تُكتسب بالقوة، بل بالاتصال بما يملأ القلب، وبوعيٍ أن كل ما يمر بنا عابر، وأن الله مطلع على ما في القلوب قبل الأفعال.
السكينة هي غياب الرغبة في السيطرة على كل شيء، والقدرة على رؤية العالم كما هو، بلا اضطراب، بلا أقنعة، وبلا مقاومة مستمرة.
هي هدوء النفس الذي يسمح للعاصفة أن تمر، دون أن تغمر القلب.
قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَتَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ (يونس: 12)
فالصبر والتوكل جناحا السكينة، لأن من يثق بالله لا يرهقه الزلل ولا يجهده الهلع.
السكينة تجعل الإنسان يعيش في ممرٍّ لا مقرٍّ؛ فلا يسعى لإثبات ذاته، ولا ينجرف وراء الأحداث، ولا يختبئ في صخب العالم.
هو حاضر، هادئ، متأمل، واعٍ بكل خطوة، يعلم أن الحياة لا تُقاس بالضجيج، بل بجودة السلام الداخلي.
وقد أضاء النبي ﷺ طريق السكينة بكلمة بالغة العمق حين قال:
(إن الله رفيقٌ يحبّ الرفق في الأمر كله) (رواه مسلم).
هذا الحديث لا يصف صفة من صفات التعامل فحسب، بل يكشف عن قانون خفي للحياة، فكل ما يُقارب بالرفق ينمو، وكل ما يُواجَه بالعنف ينكسر، ولو بعد حين.
والرفق هنا ليس ضعفًا ولا تراجعًا، بل وعي بطبيعة النفس الإنسانية، وفهم لطبيعة العالم الذي لا يستجيب للقسوة بقدر ما يستجيب للحكمة.
والعمل بهذا الحديث أحد أنقى طرق السكينة، لأن الرفق يخفف ثقل القلب قبل أن يخفف أثر الفعل.
من يرفق بنفسه لا يجلدها عند الخطأ، ومن يرفق بالآخرين لا يحمل في صدره أوزار الصراع الدائم.
وهكذا يتحول الرفق من سلوك خارجي إلى حالةٍ داخلية، تهدأ بها النفس، ويصفو بها الإدراك، ويخفّ بها الحمل الثقيل الذي تفرضه القسوة المستمرة.
الرفق يعلم الإنسان أن القوة لا تكون في الشدة، وأن الطريق الأقصر ليس دائمًا الأصدق.
ومع الرفق يتراجع الغضب، ويضيق القلق، وتصبح السكينة ممارسة يومية لا حالة طارئة.
فمن عاش بالرفق عاش متصالحًا مع نفسه، قريبًا من الله، خفيف الروح، حتى في أكثر اللحظات قسوة.
وقد تحدث الفلاسفة عن السكينة بوصفها فضيلة للروح.
فقال أرسطو “إنها الفضيلة الوسط بين الإفراط والتفريط، وبين القلق المفرط واللامبالاة المفرطة”.
وقال كارل يونغ: “من يجد هدوءه الداخلي، يواجه العالم بهدوء”، لأن القوة الحقيقية ليست في السيطرة على الخارج، بل في اتزان الداخل.
السكينة ليست هروبًا من المشكلات، بل مواجهة هادئة.
إنها القدرة على الوقوف بعد السقوط، والابتسام بعد الألم، والاستمرار بعد الفقدان، دون أن يلتهمنا الغضب أو الخوف أو الحزن.
من اختبر الصفح عرف السلام بعد الجرح، ومن اختبر الصمت عرف القوة في عدم الرد، ومن صفى نيته عرف هدوء القلب، فالسكينة ثمرة كل ذلك.
السكينة نور صامت يملأ القلب، وقوة خفية تحمي الروح من الغضب والارتباك، ونعمة تُعطي لكل عمل طعمه وعمقه، وللصمت معناه، وللنوايا صفاءها.
من يختبرها يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين، ويعرف أن الطريق إلى الله لا يمر بالصخب، بل بهدوء القلب وصفاء النية.
وفي زمنٍ تتسارع فيه الأصوات، ويُقاس الإنسان بما يُظهر لا بما يشعر، تصبح السكينة فعل مقاومة صامتة.
أن تكون هادئًا اليوم ليس ضعفًا، بل وعيًا، وليس انسحابًا، بل اختيارًا.
أن تختار ألا ترد، وألا تنجرف، وألا تُفسد قلبك لإثبات موقف، فذلك شكل نادر من الشجاعة.
السكينة هنا ليست عزلة عن العالم، بل حضورًا نقيًا داخله، حضورًا لا تبتلعه الفوضى ولا تستهلكه التفاصيل الصغيرة.
من يسكنه هذا الهدوء لا يعيش بلا ألم، لكنه يعيش بلا فوضى داخلية.
يعرف أن الحزن عابر، وأن الفرح عابر، وأن القلب إذا امتلأ بالله لم يعد فارغًا مهما خسر.
فلنكن على موعد مع تحرير أنفسنا من ضجيج العتمة إلى نور الأرواح والقلوب،
ولنتذكر دائمًا أنها ممرٌّ لا مقرٌّ.
……………
👁️ عدد المشاهدات: 55
