
تحت ضغط المقارنات والمنافسات المستمرة، ينشأ الحسد كغيمة مظلمة تغطي القلب وتفسد صفاءه.
الحسد ليس مجرد شعور عابر، بل هو مرض نفسي يفسد الروح، ويتسلل بخفية حتى يحول النور إلى ظلال ثقيلة.
رأيتُ في عين أحدهم توهجًا، لكنه لم يكن توهج الفرح، بل نارًا صامتة من الحسد، تغلي في الداخل، تُسمم لحظات البهجة، وتزرع في النفوس غصّة خفية تُحَسّ ولا تُرى.
الحسد يبدأ غالبًا من شرارة صغيرة: أمنية عابرة (ليتني أملك ما يملك فلان) لكن هذه الشرارة سرعان ما تتحول إلى طاقة سلبية تلتهم القلب، وتغرقه في براثن القلق وعدم الرضا، ليصبح الإنسان أسيرًا لهذا الهاجس.
ولذلك أشار القرآن الكريم إلى خطورته، فجاء في قوله تعالى:
» ومن شر حاسد إذا حسد« )الفلق: 5. (
إنها دعوة للتنبه إلى أن الحسد سمٌّ خفي يقتل صاحبه أولًا، قبل أن ينال من الآخرين.
فالحسد إحدى تجليات الضعف البشري.
وقد تناول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر هذه الحالة، إذ يرى أن الحاسد يقيس قيمته من خلال ما يملكه الآخرون، متجاهلًا حقيقته الداخلية.
) أنت لست ما تمتلكه، بل ما تكونه في أعماقك. (
أما في الرؤية الإسلامية، فالأمر أعمق بكثير: الحسد ليس مجرد مقارنة مادية، بل هو اعتراض على القضاء والقدر.
كأن الحاسد يقول لله تعالى: ( لِمَ لم تعطني مثلما أعطيت غيري؟) وهو في الحقيقة طعن في حكمة الله.
ومن هنا، يسير الحاسد في ممر مظلم، يتمنى أن يكون في مكان الآخر، بينما يغفل عن أن بين يديه نعمة خاصة لا يعلمها إلا الله.
إنه لا يظلم غيره فحسب، بل يظلم نفسه أيضًا؛ إذ يفقِر قلبه ويعميه عن رؤية ما بين يديه.
وفي المقابل، الرضا يفتح للإنسان أبواب القناعة والسلام الداخلي. بينما الحسد يولّد شعورًا دائمًا بالنقص.
الحاسد بعينين معطوبتين لا يرى إلا ما عند الآخرين، فيفقد القدرة على التقدير الصحيح.
ولذلك قال النبي ﷺ: «إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب). رواه أبو داود(
إنه لا يعطّل الإنسان عن العمل الصالح فقط، بل يسرق أجره الذي تعب فيه طوال حياته.
وهذه هي المفارقة: الحاسد يطارد ما عند غيره، بينما يضيّع ما في يديه من فرص وخيرات.
الحسد إذن ممر للقلق والاضطراب، لا مقرّ للاستقرار.
والحقيقة التي يوقن بها المؤمن أن هذا الممر ليس نهاية الطريق، بل محطة عابرة في رحلة أبدية.
فإذا زرع الرضا في قلبه، انفتحت أمامه أبواب السلام الداخلي، وأدرك أن كل ما في الدنيا زائل، وأنها كلها ممر لا مقر.
قال الله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض).… (النساء: 32)
هذه الآية تمثل جوهر الرضا: فليست المسألة أن ما عند غيرك أفضل، بل أنه مختلف.
والله تعالى يختار لعباده بحكمة لا يحيط بها عقل البشر.
الحسد يهدد السلام الداخلي الذي ينشده كل إنسان.
لن تجد سكينة في قلب مغمور بالغيرة والمرارة.
أما الرضا، فهو المفتاح الذي يفتح أبواب الطمأنينة والتفاؤل واليقين.
فلنترك الحسد خلفنا، ونمضِ بنور الرضا،
ولنتذكر دائمًا: إنها مَمَرٌّ … لا مَقَرٌّ.
………………….
إلى الجمعة القادمة
أشرف عزمي
👁️ عدد المشاهدات: 8