نعتقد كلنا أو معظمنا أن الخطأ فقط ما هو محظور، وأن كل ما لم يُحرّم صريحًا فهو آمن.
هناك مناطق رمادية بين الحلال والحرام هي الشبهات ، أرض خصبة للقلوب الضعيفة، ونفق مظلم للعقول الغافلة.
قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ (البقرة: 187)
فهو سبحانه لم يقل “فلا تتعدوها”، بل “فلا تقربوها”، لأن الاقتراب من حدود الحرام بداية الانزلاق نحوه.
من ابتُلي بالشبهات ولم يحذر، وقع في الحرام كما يقع الطفل في حفرة لم يرها، ولو بنية صافية.
قال النبي ﷺ:( اتقوا الشبهات، فإنّه من حُرِّم عليه الحلال وقع عليه الحرام) .
تلك الكلمات ليست مجرد تحذير فقهي، بل فلسفة عميقة للحياة، لأن كثيرًا من السقوط يبدأ في مساحة لم تُدرَك، في سؤال لم يُسأل، في نظرة لم تُرجَع، في كلمة لم تُراجع.
الشبهات اختبار للنية قبل الفعل.
إنها مرآة تُظهر حقيقة الإنسان:
هل قلبه مستعد للتمسك بالحق؟
هل وعيه يقود خطواته أم تُسيّره الرغبة والخوف؟
فالحلال والحرام ليسا فقط ما يُرى بالعين، بل ما يُحسّ بالقلب.
ابن خلدون كتب أن المجتمعات تنهار حين يختلط الحلال بالحرام في النفوس، لأن الضباب الرمادي للشبهات يجعل الناس لا يعرفون أين يقفون، ويبدأ كل واحد يتجاوز الخطوط شيئًا فشيئًا، فيبرّر لنفسه كل تجاوز.
الشبهات ليست مقتصرة على المال، أو الطعام، أو الحقوق المادية، بل تشمل الأقوال والمعاملات والنية وحتى العادات اليومية.
كيف تقول كلمة دون أن تؤذي؟
كيف تنظر دون حسد؟
كيف تُعطي دون رياء؟
هذه كلها شبهات إذا لم يكن القلب تقيا.
الفلاسفة مثل سقراط ويونغ تحدثوا عن المساحات الرمادية في السلوك البشري، وكيف أن الإنسان لا يُقاس بأفعاله الظاهرة فحسب، بل بقدرة قلبه على التمييز بين ما هو صائب وما هو قابل للغش والمراوغة.
تخيّل أنك تمشي على حافة هادئة، لكن الأرض تحت قدميك ضبابية، لا ترى القاع، كل خطوة تحتاج يقظة، كل حركة تحتاج حضورًا.
هذه هي الشبهات: لا تُرى على الفور، لكنها تكشف عن حقيقة النفس.
واللين وحسن الخلق هنا له دور: القلب الذي يلين للحق، واللسان الذي يلين للخير، واليد التي تُلين للرحمة، ذلك القلب يعرف متى يبتعد عن ما هو غامض، ومتى يمسك بما هو واضح.
اتقاء الشبهات ليس خوفًا من الحرام فحسب، بل مسار للسكينة والوضوح، لأنه يبعدك عن المتاهة التي يعيشها من يخلط بين الحق والباطل، بين ما يُرضي الله وما يُرضي الناس، بين ما يُشبع ضميرك وما يُغري غرورك.
قال ابن عطاء الله السكندري: “من اتقى الشبهات، حفظ قلبه، ومن لم يتقها، ضاع بين الأبواب الضيقة”.
وقال أرسطو: الفضيلة هي الوسط بين الإفراط والتفريط، فالشبهات هي اختبار هذا الوسط، هي المقياس الذي يختبر مدى حكمة الإنسان في حياته اليومية.
من اتق الشبهات، رأى أن الدين ليس شعارات تُرفع، ولا أسماء تُذكر، بل مسار داخلي للوضوح، ومرور في الممر لا إقامة في المقر.
من ابتعد عن الشبهات، تحرّر من القيود المخفية، صار قلبه أهدأ، وعمله أنقى، وعلاقاته أصدق.
وعندما نختبر أنفسنا في المواقف الرمادية، نعرف أن الدين يظهر في المعاملة، وأن الإيمان يُقاس بحسن اختيار الطريق، لا بصرامة الالتزام الظاهر وحده.
الشبهات تذكّرنا أن الطريق إلى الله ليس دائمًا واضحًا، وأن كل خطوة تحتاج يقظة، وكل قرار يحتاج مراقبة.
ليس المهم أن يرانا الناس صائبين، بل أن يرانا الله صادقين، وأن نحسّن اختيارنا حتى في الظلام، حتى حين لا يُشاهدنا أحد.
من اتق الشبهات، صار ممرًّا للحق، لا مقرًّا للشك.
فنتعلم أن نحرس قلوبنا من الغموض، أن نبتعد عن المواقف المشكوك فيها، أن نحرص على صفاء النية، وأن يكون اختيارنا لله لا للناس، لأن الله يراقب، ويرى ما في القلوب قبل الأفعال. فالشبهات مصيدة إذا اتقيناها، صار ممرنا إلى الأمان، والنقاء، والثبات على الحق.
ولنتذكر دائما أنها ممر لا مقر
…………….
إلى الجمعة القادمة
👁️ عدد المشاهدات: 83
