
في ظل الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي، يتساءل الكثيرون: هل اندثر فن الخاطرة الأدبية؟ أم أنه تحوّل وتكيّف مع العصر الرقمي؟
الخاطرة، ذلك الفن الأدبي الرقيق، كانت وما زالت وسيلة للتعبير عن المشاعر اللحظية والانفعالات الداخلية بأسلوب أدبي فطري. هي ليست مقالة تحليلية ولا قصيدة موزونة، بل هي ومضة شعورية تنبثق من القلب .لتلامس القلوب
يقول الكاتب إرنست همنغواي: “الكتابة الجيدة هي التي تُشعر القارئ وكأن شيئًا قد تغيّر داخله بعد القراءة”. لذا فإن الخاطرة هي الفن وليد المشاعر يأخذك إلى عالمٍ مختلف يعلن عن وهجه المفاجيء حين تقرأه
وهنا يبرز التساؤل، في عصر تتسارع فيه التكنولوجيا: هل اندثر فن الخاطرة الأدبية؟ الإجابة تكمن في فهم التحولات التي طرأت على هذا .الفن الراقي
فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الخاطرة أكثر اختصارًا وتكثيفًا، مما أتاح لها الوصول إلى جمهور أوسع. إلا أن هذا التحول قد أفقدها بعضًا من عمقها .وتأملها الذي كان يميزها في السابق
كما أن ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي أثار جدلاً حول إمكانية استنساخ الإبداع البشري. رغم قدرة هذه التقنيات على توليد نصوص، إلا أنها تفتقر إلى اللمسة الإنسانية والعمق العاطفي الذي يميز الخاطرة الحقيقية. كما أبدى العديد من الأدباء تخوفهم من تأثير الذكاء الاصطناعي على جودة الأعمال الأدبية وحقوق .الملكية الفكرية
نعم، نحن في زمنٍ تتسارع فيه الإيقاعات وتضيق فيه المساحات العاطفية، يبدو فيه أن فنّ الخاطرة الأدبية كضوء خافتٍ يصارع في عتمة الصخب. تلك الكلمات التي لا تطلب وزنًا ولا قافية، لكنها تطلب الصدق وتمنحنا لحظة تأمل خالصة. فهل يستطيع هذا الفن أن يتكيّف بصمت، ويتحوّل بهدوء كما تتحول الأشياء الحيّة كي تسابق زمن الذكاء الاصطناعي؟
فن الخاطرة، كان لكثير من المبدعين .هو نبض القلب مرسومٌ على الورق
فالخاطرة ليست مجرد سطور عابرة، إنها لحظة شعور تتلبّس الكلمات. هي الحزن حين يتأنّق، والفرح حين يبزغ، هي النبضة التي لا تجد متّسعًا في رواية ولا احتفالًا في قصيدة، فتكتفي أن تكون وحدها، خفيفة، مؤثرة.
قال أحمد أمين في “فيض الخاطر”: “الخواطر كالغيم، تأتي وتمضي، لكنها تروي الأرض إن سُقيت بلطف”. وفي هذا الفن، كتب جلال عامر ساخرًا، وحزينًا، وباكيًا دون .ضجيج
وبما أننا في حضرة زمن السوشيال ميديا، حيث تتأنق الكتابات بين السرعة والاختصار، في عالم تغلب عليه الفحرة السريعة المتلهفة لعدد المشاهدات، لم تمت الخاطرة، لكنها تقلّصت. أصبحت منشورًا مقتضبًا،
تغريدة، أو جملة على خلفية ملوّنة. لكنها في أعماقها بقيت محتفظة بنبضها، تنتظر قارئًا لا يمرّ بل يلتقط ويشعر.
قال أوسكار وايلد ذات مرة: “كلّنا في الوحل، لكن بعضنا ينظر إلى النجوم”، وهذا ما تفعله الخاطرة، ترفع الرأس قليلاً لتجعلنا نرى شيئًا أبعد عن حدود صفحات الانترنت، شيئا مستقراً في الأعماق.
غير أن دخول الذكاء الاصطناعي إلى كل هاوٍ أو مبدع، وأصبح ينتج نصوصًا شبه أدبية. جعل الأمر مفرغًا من القيمة الحقيقية لفكرة التخيل والشعور والإبداع، لكن يظل هذا السؤال بين قوسين؛ هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتب خاطرة صادقة؟ هل يمكنه أن يحاكي اللغة، يقتبس الإيقاع، قد يكون الرد السريع نعم وهذا بنسبة كبيرة صحيح، لكنه لن يستطيع طرق باب المشاعر فهو في نهاية الأمر مجرد آلة (روبوت) لا يشعر. لا يمكن للآلة أن تختنق بعبرة، أو تحبس دمعة، أو تكتب تحت شجن الحنين.
هذا التحول دفع بعض الأدباء للتأمل، مثل عز الدين
إسماعيل الذي كتب عن الخاطرة باعتبارها “تجربة شعورية فورية”، وهي وصفة لا تصنعها الخوارزميات، بل تمر عبر القلب أولًا.
وكما قال عزرا باوند: “الأدب العظيم هو ببساطة لغة مشحونة بالمعنى إلى أقصى درجة ممكنة” .
لذا فجديرٌ بالذكر أن هناك من كتاب الخاطرة مَن أضاءوا الطريق، وتركوا لنا بصمتهم الحية كي تلمع وتشرق في أذهاننا رغم أنف التحول الرقمي.
– أحمد أمين: رفع مقام الخاطرة وجعلها تجلّيًا فكريًا وإنسانيًا.
– جلال عامر: حوّلها إلى طلقات سخرية محمّلة بالفلسفة.
– سيد قطب: نسجها بأسلوب وجداني رفيع في “خواطر” ما قبل الثورة.
– أنيس منصور: أعاد تعريف السرد الخاطري في أسلوبه الصحفي العذب.
– عبدالوهاب مطاوع: كان يضع خواطره في بوتقة الحكمة الراقية وهو يتناول القصص الحياتية التي كان
يناقشها.
– ومن الغرب: هنري ميللر، همنغواي، وإيزابيل الليندي تركوا لنا شذرات تتماهى مع روح الخاطرة وإن لم يسمّوها بذلك.
وعودة إلى فكرة الاندثار، وكي نحارب ذلك الظلام الذي يتعدى على فن الخاطرة بهجومٍ شرس، فعلينا أن نُبطئ قليلًا… نكتب كما نشعر، لا كما يُنتظر منا.
نقرأ كثيرًا… ننهل من النبع الأصلي، من الأدب العميق.
نمنح اللغة وقتها… ونمنح أرواحنا حرية الاعتراف، وأول خطوات الاعتراف هو فهم إلى أين ذهب هذا الفن.
سيظل فن الخاطرة حيًا، يتطور مع الزمن، لكنه يحتاج إلى الحفاظ على جوهره الإنساني العميق، بعيدًا عن التكرار والسطحية التي قد تجلبها التقنيات الحديثة.
كما قال هنري ميللر: “طور اهتمامك بالحياة كما تراها؛ الناس والأشياء والأدب والموسيقى – العالم غني جدًا، ببساطة ينبض بالكنوز الغنية والأرواح الجميلة والأشخاص المثيرين للاهتمام. انس نفسك” .
ختامًا الخاطرة لم تمت، لكنها تغيّرت. لم تندثر، لكنها تنتظر من يكتشفها من جديد. هي الفنّ الوحيد الذي لا يطلب منّا شيئًا سوى أن نكون بشرًا. وكما قال أفلاطون: “غاية الأدب أن يستحي المرء من نفسه أولًا
فلنعد لها… لا لنكتب كما يُقال، بل لنقول كما نشعر.
…………………………..
👁️ عدد المشاهدات: 13