
تُعد قصيدة العامية المصرية، في امتدادها التاريخي، وثيقة فنية واجتماعية تحمل في طياتها المشاعر الجمعية والتجارب الفردية في آن واحد. وإذا كان شعر العامية قد مثّل منذ بيرم التونسي إلى صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي لسان حال البسطاء، فإن تجربة الشاعر أشرف عزمي تأتي امتدادًا لهذا الإرث، مع خصوصية لغوية وبنائية تجعله واحدًا من الأصوات التي تؤسس لملامح جديدة في المشهد الشعري.
ديوانه ( الشارع بيصحى قبلي) يمثل تجربة شعرية لافتة تتسم بالمشهدية البصرية، والإيقاع الداخلي القائم على التنغيم والتكرار . وفي هذا السياق، تأتي هذه الدراسة لتكشف الأبعاد الأسلوبية في بعض نصوص الديوان، من خلال الوقوف على بنيته الصورية والإيقاعية والدلالية، مع تحليل نصّي مفصل لقصيدتي (الشارع بيصحى قبلي) و( حلم واقف)
الشارع بيصحى قبلي
كأنه شمس بتطير من النوم،
زحمة بتتنفس
من صوت عربيات بتصرخ،
وخناق الناس المستعجلة،
ريحة القهوة بتمشي
جنب ريحة البوظة،
العيش البلدي بيطلع
ريحة مصرة تعمل
تفاعل كيميائي
مع قرص طعمية،
الزيت بيلسوع فيه،
وشفايف قراطيس مستنية
تعبي الحلم،
وتبقع أخبار
عن الإبادة والجوع،
عن فنَّانة بترقص عريانة
في الساحل،
عن تنسيق متلخبط
وخصخصة العلم،
عن ترامب اللي
بيسرق أحلامنا
وبيقتل بيها الأمل،
عن حوادث بتاكل أعمارنا،
وتكتوكرات بتدخلنا سريرها
علشان نتعلم ازاي ننام،
الخضار في شنطة ست
بيعيط من سخونة القرطاس،
فالست بتضحك،
وعنيها بتحط رتوش للوحة،
فبعيش معانتها واتوه،
عيل متشعلق في ميكروباص،
بينادي على آخر كرسي فاضي،
يمكن حد يلحق حلمه،
الشاب على الناصية،
مكتوب على وشه حكايته،
الصبر بيشكيه للزحمة،
مستني نهار
ريحته تديه القوة
فيتمسك أكثر بالصبر،
ولد سريره كرتونة
ع الرصيف،
بيحلم رغم الدوشة،
النوم على جلده خفيف،
صبره بطانية مقطعة
بس فيها دفا،
راجل بيبص في مرايا
محل عصير،
بيمسح شعره،
بيهندم في قميص
مش مكوي،
علشان يدخل
يسلِّم على واحدة
كل يوم،
بتشرب مانجة
وتستناه،
ولد بيجري يلمّ الهوا
قبل الإشارة ما تفتح،
يشيل من الأرض منديل
يسلمه لحد وراه،
بضحكة مش
راكبة على سنّه
ولا على تعبه،
بس راكبة على روحه،
صوت عربية كبدة
بيلم الرزق م الدراويش،
“عيش.. سجق.. كبدة”،
مع كل ندهة
حد بيحس بالجوع،
مش علشان الأكل،
يمكن للونس
أو حد يشاركه الطريق،
قاعد
بيبيع ولاعات،
كل ولاعة نار،
ومفيش حد شايف
النار اللي جواه،
مُدرّسة
اللي بتعدي وسط العيال،
بشنطة تقيلة،
شايلة مستقبل مش بتاعها،
بتضحك في وشهم،
وتعيط في سرها،
ووشوش في البلكونات
بتشم النسمة،
تعدّي اليوم
من غير ما تتكلم،
بتبص تحت،
كأنها بتدور
على أيامها اللي مشيت
وما قالتش سلام،
النهار
بيفرد دفا ع الجدران،
بينادي على العيشة
تقوم من النوم
تلحق اللي فاضل منها،
شكلي زيهم،
بس جوايا أصوات،
حواديت كتير،
صور بعيشها
في الخبطة
اللي على باب الميكروباص،
في دمعة
بتنشف على خد،
في ريحة طعمية سخنة،
في ضحكة طفل
لسه ما فهمش يعني إيه
نعيش،
نستنى كل حاجة
قصيدة «الشارع بيصحى قبلي» تمثل العتبة الأولى للديوان، وهي العنوان الذي يتصدر الغلاف أيضًا، وفيها يستحضر الشاعر مشهدًا يوميًا مألوفًا لكنه يعيد تشكيله في صورة شعرية نابضة بالحياة. فالشارع، في الوعي الجمعي، مكان للحركة الصاخبة والازدحام، لكنه في النص يتحول إلى كائن حي يسبق الشاعر في الوعي والإحساس.
ـ المشهدية
تتجلى المشهدية في النص من خلال صور حسية دقيقة: أصوات الباعة، ضجيج العربيات، رائحة القهوة التي تختلط برائحة البوظة، تفاصيل الحركة، والوجوه التي تعبر عن وجع وأمل في الوقت ذاته. هذه المشاهد المتتالية تؤسس لفضاء شعري شامل، حيث تتحول الحياة اليومية إلى حدث شعري مكتمل.
ـ الإيقاع الداخلي
الإيقاع الداخلي في النص ينبني على التكرار والتوازي التركيبي، مع جمل قصيرة واندفاع سردي يشبه نبض الشارع. هذه التقنية تمنح النص حسًا حيويًا، يجعل القارئ يعيش حالة الوعي الجماعي التي يرسمها الشاعر.
ـ الدلالة
تدعونا القصيدة للتأمل في عمق الحياة اليومية، وتؤكد أن الشعر ليس انعكاسًا لجمال الصور فقط، بل أيضًا لعنف الواقع وصموده. الشارع هنا ليس مكانًا عابرًا، بل حالة شعورية تمثل الوعي الجمعي وتكشف عن العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع.
حلم واقف
واقف،
ضهره باب قديم،
شايل سكوت سنين،
وشه مكرمش،
مش من الزمن…
من كتر ما فكر ومردش،
بيفوق قبل الشمس،
زي عامل بيصَحي النور من نومه،
يلبس هدوم
اتغسلت كتير،
ريحة الغسيل القديم
لسه ما فارقتش هدومه،
بس التعب لسه لابسها،
يركب أول أتوبيس،
صوته بينادي من بعيد،
من غير ما يشوف الطريق
ولا الزحمة،
لأن اللي جواه
أوسع من أي شارع،
في دماغه،
عيل بيطلب دروس،
فاتورة عاملة نفسها نايمة،
وحلم
بيجري في جنينة
هو مش لاقي بابها،
ينفخ روحه
في البلكونة،
زي ما بيبعت رسالة لنفسه
كل يوم
بنفس الكلام،
الناس حواليه
صوتها عالي،
بس محدش سامعه،
وهو بيعدي
كأن عمره ما كان له اسم،
البلكونة؟
تحسه
زي شجرة بتعرف العصافير،
حتى لو ما غنوش،
بتطبطب عليه
بحنية
زي صباع أم
بتعدل وش ابنها وهو نايم،
وتقول له، من غير صوت:
“خد نفسك،
الدنيا مش مستنياك،
بس انت ماشي…
وده لوحده انتصار”،
يغمض عينيه،
يحضن الصمت،
ويفتكر
إن في يوم
يمكن الحلم يرجع،
بس المرة دي
على رجليه،
قصيدة «حلم واقف» تمثل واحدة من أبرز اللوحات الشعرية في الديوان، حيث يلتقط الشاعر ملامح إنسان بسيط يقف على حافة الحياة، محمّلًا بوجع السنين، لكنه ما يزال محتفظًا بقدرة على الحلم رغم الانكسار.
ـ البنية الصورية
البنية الصورية للنص تقوم على صور متلاحقة ذات طابع رمزي وواقعي معًا: الباب القديم رمز للماضي المثقل، الملابس المغسولة دلالة على الاعتياد والتكرار، الحلم في الجنينة استعارة للحياة المستحيلة أو المؤجلة، بينما البلكونة تتحول إلى حضن بديل يحتضن البطل. هذه الصور تعيد صياغة الواقع اليومي بلغة شعرية تنبض بالرمز والحنين.
ـ الإيقاع الداخلي
الإيقاع الداخلي يعتمد على الجمل القصيرة، والتكرار، والفعل المضارع الذي يوحي بالاستمرار: يفوق، يلبس، يركب، ينفخ. وهو إيقاع يعكس إصرار الشخصية على الحركة رغم القهر، ويعطي النص قدرة على أن يكون تجربة عاطفية متواصلة.
ـ الدلالة
تكمن الدلالة في النص في إبراز الانحياز للمهمشين وجعلهم أبطالًا حقيقيين، إذ أن مجرد استمرارهم في السير هو بمثابة انتصار على قسوة الواقع. النص يعبر عن فلسفة شعرية ترى في الحلم فعل مقاومة وصمود.
تُظهر قراءة ديوان الشارع بيصحى قبلي أن أشرف عزمي يبدع في تأسيس تجربة شعرية تقوم على المشهدية والإيقاع الداخلي، بعيدًا عن الوزن التقليدي. المشهد الشعري في نصوصه يُعيد الحياة إلى التفاصيل اليومية، بينما الإيقاع الداخلي يحافظ على نبض النص ويمنحه عمقًا وجدانيًا.
من خلال تحليل قصيدتي ( الشارع بيصحى قبلي) و ( حلم واقف )، يتضح أن الشاعر يسعى لإعادة الاعتبار للإنسان البسيط، وجعله بطلًا حقيقيًا لحياته، وهو بذلك يرسخ مكانته كأحد الأصوات التي تسهم في تجديد قصيدة العامية المصرية وتوسيع آفاقها الجمالية، مؤكدًا أن الشعر هو مساحة للحلم، حتى في أصعب الظروف.
……………………
👁️ عدد المشاهدات: 113