Skip links

(المتنبي .. وهاتف الثريّا!) – الكاتب/ دخيل الخليفة .. الكويت

ما الذي يجمعُ المتنبِّي وعنترةَ بنَ شدَّاد والمغولَ، سِوى كذبةِ تتقافزُ على حروف الأبجدية؛ بمهارة راقصة باليه! فمَن الذي قتل المتنبِّي؟ وكيفَ كسَرَ عنترةُ خصومَه؟ ولماذا حوَّل المغولُ نهرَ دجلةَ إلى اللَّون الأزرق؟ ومِن أين جِيء بماء الذهبِ لتدوين المعلَّقات؟ وهل صحيح أنَّ «كلَّ أدبٍ انتحالٌ» كما يرى بورخيس؟

تصبحُ قصصُ التُّراث العربي، في أحايين كثيرة، واقعًا لا يُمكن تكذيبه في حضور ذهنيةٍ جاهزةٍ لتصديق كلِّ ما هو مُعلَّب، ذهنيةٍ مستعدة لخوض الحروبِ على المحاور كافة؛ بأسلحةٍ وهميَّة تفتقر للمعقول.

ورغم أنَّ تلك القصص امتهَنتْ تمويه الواقع، عبر نسْج مشاهدَ متخيلةٍ يسهمُ بتصديقها غيابُ الشَّاهد، وقوةُ الصِّياغة.. فإنَّها تتعارضُ مع الحُجج. كثيرٌ من تلك القصص سبقَ عصرَ التَّدوينِ، وحولتها الشُّعوبُ إلى أساطيرَ تحاكي الواقع، وصدَّقها كثيرونَ؛ لأنَّها مكتوبة، ذلك أنَّ التاريخ -الذي يكتبُه المنتصرُ عادةً- في ذهنية غير قليلٍ من العربِ هو حقيقةٌ مطلقةٌ، تعكسُ فترةً شهدتْ قوةً ونهضةً ما زال الحنينُ يجرفنا إليهما، فنعيش أوهامَ النوستالجيا بتحسُّرٍ وخيبةٍ! قصصٌ ربَّما كتبَها مَن لم يعاصرْها، ولا يعرف تفاصيلها، إنَّما سمعَ عنها مَن دوَّنَها وزادَ عليها من مخيّلتِهِ الكثير. قصصٌ تعرَّضتْ لموجاتٍ من التَّزييف الشَّفاهي.

قد يظنُّ البعضُ أن بهذا القولِ طعنًا في تُراثنا العربيِّ! لكنَّ الحقيقةَ تقتضي إعادةَ صياغةِ هذا النَّوع من التُّراثِ، والتَّثبُّتَ من مَرويَّاتهِ بنزْعِ قدسيَّتها وتقويضِ أسْطرتها عبر مساءلةٍ علميةٍ جادَّة، ذلك أن مصدرَ معظم تلك القصص المذكورة القيلُ والقال! فضلًا عن هدفِها المضمر المتعلِّقِ بتشويه شخصيةٍ ما، وإعلاء شأن أُخرى، لسبب أو لآخر.

يُخيَّل للمتلقِّي، في قصة مقتل المتنبِّي مثلًا، أن اتصالًا (عبر هاتف الثُّريَّا على الأرجحِ!) وصل لخصومه عند عودتهِ من «شيراز» بعد لقائه عضد الدولة البويهي؛ فترصَّدَهُ فاتكٌ الأسدي وقتله؛ إذْ كانَ أبو الطيِّبِ قد هَجا ابنَ أختهِ قاطعَ الطَّريقِ «ضَبَّةْ… وأُمَّهُ الطُّرْطُبَّةْ»!

هكذا، بكلِّ بساطةٍ، رغم أن مسافةَ المسير، بين شيراز (في إيران) وموقع اغتيالِ الشَّاعرِ في النُّعمانية بواسط (في العراق)، تصلُ إلى قُرابة شَهرٍ (22 يومًا – 860 كيلومترًا)، لا يُعرفُ خلالها بالتَّحديدِ: في أيِّ يومٍ سيصلُ، ومن أي اتِّجاهٍ سيأتي، وبأيِّ ميقاتٍ سيبلغُ هذا الموقعَ!

لكنَّ الغريبَ أنَّ تفحُّصَ جوانبِ القصةِ المأساوية يكشفُ أنَّها مكتوبةٌ بهدفِ الإساءةِ للمتنبِّي كشاعرٍ وفارسٍ، وأنَّ تسجيلَ وقائعها نُقل عبْر الأقمار الصِّناعية! بينما كانت ساحةُ القتالِ مزروعةً بميكروفونات التَّجسُّسِ وربما الكاميرات!

فبعد عودة الشَّاعر مع ابنه «مُحسَّد»، وخادمهِ، لمحَ الأعداءَ بانتظاره على مسافةٍ قد تتجاوز المائتي مترٍ، فحاول الهربَ، إلَّا أنَّ خادمَه صاحَ بهِ مُذكِّرًا: «إلى أين يا أبا الطيِّب؟ ألستَ القائل: الخيلُ واللَّيلُ والبيداءُ تعرفني * والسَّيفُ والرُّمحُ والقرطاسُ والقلمُ». وهنا ردَّ عليه المتنبِّي: «لقد قتلْتني قتلكَ الله!» فلوَى عنان فرسهِ، وقاتلَ حتَّى قُتل مع ابنهِ وخادمِهِ.

لكن لم يتساءل أحدٌ: مَن الذي سجَّلَ حديثَ المتنبِّي وخادمِهِ إذا كان الثلاثةُ قد قُتلوا؟! وكيف لخادمٍ رأى قُرابةَ ثلاثينَ رجلًا على الجانب الآخر، أن يتجرأ على سيِّدهِ ويستهزئَ بهِ؟! وهل ذكرتْ كتبُ الأنسابِ أنَّ «ضَبَّةَ» هذا هو فعلًا ابنُ أختِ فاتكٍ الأسديِّ؟ ولماذا لم يأخذ بثأرهِ حين كان المتنبِّي موجودًا في الكوفةِ أصلًا قبل انتقالهِ إلى حلَبَ ومصرَ ثُم بلادِ فارس؟

أغلبُ الظنِّ هو أن ما حدثَ كان بين قُطَّاع طرقٍ، لم يسمعوا بالمتنبِّي أصلًا، رأوا ثلاثة رجالٍ محمَّلين بالخيرات، قادمينَ من بلاد فارس، فهجموا عليهم وقتلوهم وأخذوا حمولتهم؛ لكنَّ الحدثَ راق لخصوم المتنبِّي، فربطوه بقصةِ هجائه للمدعو «ضَبَّةْ… وأُمِّهُ الطُّرْطُبَّةْ»؛ بهدف إظهاره كرجلٍ جبانٍ! ولعلَّ الأخطرَ في هذه القصةِ المفبركة هو جعْلها حقيقةً مطلقةً في المناهج المدرسيةِ!

هناك من استلذَّ بهكذا أكاذيب حتى حوَّلتْها الكتبُ التاريخيةُ إلى وقائع، عبْر تشييد الوهم بزيٍّ أدبيٍّ هدفَ منه الرَّاوي إلى تضليلِ الآخرين حتَّى صدَّقوا أكذوبته. وهكذا قصصٌ لا واقعيَّة صرفتْ أنظار الكثير من المستشرقينَ عن ترجمتِها، فهم يبحثونَ عن حقائق لها أركانُها المكتملة ومصادرُها الموثوقة، لذلك لم يعتمدوا في تراجمهم سِوى القليلِ من آدابنا.

في قصةِ تسمية «المُعلَّقات» الشِّعرية ما هو أغربُ من قصة المتنبِّي، ويُمكن أن يحكيها لك أيُّ طالبِ علمٍ حفظها دون أن يفكِّرَ قليلًا بمصداقيتها! تخيَّل أنها سُمِّيت «معلقاتٍ» لأنَّها كُتبت بماء «الذَّهب» وعُلِّقت على أستار الكعبة!

هكذا بكلِّ بساطة، يأتي أعرابيٌّ حافٍ وقتذاك، لا يملك سوى القليل من التمر، ويرتدي -على الأرجح- ثوبًا ممزقًا، سيكتب قصائد من سبعينَ بيتًا وأكثر بماء الذهب، باعتباره متوفِّرًا في سُوق «عكاظ» بأسْعار مُخفَّضة! بعدَ أن يشتريَ ورقًا (باعتباره متوفِّرًا أيضًا!) أو قطعة قماشٍ طويلة، لينقشَ عليها القصيدة، بينما القرآنُ الكريم نفسه كأعظم كتابٍ سماويٍّ، وقيمته أهمُّ من كل المعلَّقات يُكتبُ على قطَعِ من جلود، وبعضِ عظام الإبل ليحفظوه!

ولأنَّ لكلِّ شعبٍ أساطيرَه التي تؤكدُ بحثَه الدَّائمَ عن البطلِ الخارق، سنتغاضى بطيبِ خاطرٍ وابتسامةٍ عن «فانتازيا سوبرمان الصَّحراء» عنترةَ بن شدَّادٍ، وقدرته على هزيمة خمسينَ فارسًا في معركة، بينما في الواقع لا يمكنهُ هزيمة خمسة رجال يحيطونَ بهِ من كلِّ جانبٍ حاملين سيوفهم؛ لكن القصصَ هي فن الأكاذيب!

وعنترة هذا ليس بعيدًا عن قصةِ هجوم المغول على بغداد، وكيف أغرقوا المكتباتِ في نهر دجلةَ حتى تحوَّلَ ماؤه إلى اللَّون الأزرق! هذا يعني أن هناك ملايين الكتب، بينما في عصرنا الحالي تفتقدُ مكتباتنا الوطنية لهكذا عدد! لكن صيغةَ المبالغةِ الخارجة عن المألوف حوَّلت القصة إلى حقيقة، في وقتٍ انشغل فيه المغول بقتل الجيش والخليفة والناس دون التفكير بحملِ الكتب وإلقائها في النهر البعيد، كونها بلا أسنان! وسيكون مقبولًا لو أن النَّهر أصبحَ أحمرَ بسبب الدَّمِ المُراقِ خلال القتل الوحشي، وليس أزرقَ بسببِ الحبر!

تعجُّ مناهجنا المدرسية بهكذا قصصٍ، تحوِّلُ عقولنا إلى قلوبٍ تدغدغُها العاطفة، عاجزين عن إعادة كتابةِ تراثنا بشكلِ حقيقيٍّ وسليمٍ خالٍ من هيمنةِ الأسطورة. ويبقى أن نسألَ: مَن الذي اتصلَ عبر هاتف «الثُّريَّا» بالمدعو فاتك الأسدي؟!

…………………….

 

👁️ عدد المشاهدات: 22

Leave a comment

arArabic
Explore
Drag