
تنطلق اليمنية فكرية شجرة من خلال علاقة معقدة تجمع بين البطل وحيد الأمير وعفراء، في أحد مشاهد الرواية تلخص حوارية بين وحيد وعفراء القضية برمتها،
قالت: متى نلتقي؟ قال: بعد عام وحرب.
قالت: متى تنتهي الحرب؟ قال: عندما نلتقي.
الحرب لا تنتهي يا درويش؛ أربعة أعوام والحرب لا تنتهي، أكلت كل شيء حتى قلبي الأخضر. عادت الخيارات الصعبة تطرق عقلك يا وحيد؛ لم يعد الاختيار بين أن تذهب إلى عدن أم إلى مأرب؛ صار الاختيار أن تبقى في وطن يغرق أو تتركه وترحل كما يفعل الكثيرون أمثالك؛ كعادتك تختار الأصعب..
ألن نلتقي يا عفراء؟ لو أننا نلتقي ستنتهي الحرب..ص 298. .
تلخص هذه الفقرة الرواية برمتها، ما بين عرض لمآسي وطن هو كل شيء عند أبنائه، وبين حب هو الحياة لوحيد وعفراء، وبينهما تتردد أحداث الرواية صعودا وهبوطا حول توثيق أحداث اليمن المتصاعدة منذ بداية الربيع العربي حتى الآن، وهي أحداث درامية مبكية موجعة ملتهبة عانى منها أبماء اليمن معاناة شديدة ما بين قتل وفساد وهلاك ودمار بشتى أنواعه وضروبه. صورت الروائية فكرية شحرة مأساة حقيقية لمن لم يطالع أخبار اليمن في ذروة أحداثه بغية تسجيل انشقاق المجتمع اليمني حول ما يسمى بالميلشيا وبين النظام الحاكم، وقد أجادت الروائية في تصوير ما لم تستطع الكاميرا تسجيله صورت صورا قاسية لأي مجتمع يمكن أن يتعرض له فينقله إلى كومة من خراب ودمار.
من المآسي المبكية حقا مقدرة الروائية فكرية شحرة في الرواية مسألة جهاد الصغار واغتصابهم إرضاء للجنود، فتجعلك تقرأة بشغف أحداثا مؤسفة فتقص حكايات: عن اغتصاب للمجاهدين صغار السن في ثكنات الجهاد من قبل المجندين فيما بينهم، إنهم يستفيدون من أجسادنا لمتعتهم ودروع لمتاريسهم وأخيرا أرقاما لضحاياهم ، مازلت أذكر ذلك الولد من قرية قريبة منا حين فضل أن يموت في المعركة مختارا على أن يعود بعار اغتصابه من قبل وحش بشري يدعى الجهاد في سبيل الوطن.. يتعاطون المخدر والسحر ليتحولوا إلى وحوش تقتل وتنتهك الأضعف.. ص 188.
صورة أخرى مخزية ومؤسفة تعبر عن انحلال المجتمع كأثر من آثار الحرب والفوضى والخراب والفساد ،
صرخت بصوت هادر وقد فقدت كل هدوئي المصطنع والحقيقي: ما الذي يجعلك تفعلين هكذا يا هذه؟ هل البلد ينقصها أمثالك ؟ تبدين سيدة محترمة فلماذا هذه الطريق الملعونة؟ بصقت قطعة اللبان من فمها وهي تقول بصوت عنيف: إنه الجوع .. الجوع الذي لا يعرفه أصحاب ربطات العنق مثلك، لدي أسرة أعيلها وينتظرون مني مالا وطعاما كل يوم..ص 69.
هكذا أرجعت الروائية شحرة مسألة التكسب بالجسد إلى ما يخلفه الدمار وأصداء الفوضى الشاملة التي عمت المدن، تما كما فعل نجيب محفوظ في رواية بداية ونهاية الواقع أحداثها في مصر.
ناهيك عما صورته الروائية لمعاناة المواطنين الآمنين في السجون والمستشفيات وغيرها إنها صور مؤلمة للغاية عما ينتج من أثر الحرب فقد وثقت بقلمها معاناة المرضى في المشافي وكيف داهمت المليشيا المستشفيات وسحبت الجرحى من على أسرتهم إلى أماكن مجهولة دون رحمة أو شفقة. فتقول :
هجم المسلحون على المشفى مع قيادي حوثي، كانوايفتحون حجرات المرضى ويقتادون الجرحى من على أسرتهم حتى أولئك الذين في العناية المركزة وجراحهم تنزف أو الذين تقرر بتر أجزاء من أجسادهم ص 244.
ومع ذلك فقد قدمت الروائية أنماطا مختلفة من شخصيات وطنية، محبة للسلام واستقرار الوطن، رجالا ونساء، أحمد النويري شخصية قوية محبة للوطن داعية إلى السلام والاستقرار، عفراء، وسميرة، وزينب، وماهر، وحاتم وغيرهم من الشخصيات الوطنية المخلصة للوطن والمحبة للتضحية والداعية إلى السلام بين أفراد الشعب. على عكس شخصية قايد، التي جاءت من رحم المعاناة للتاجر بشباب البلد لصالح جماعة “أنصار الله” . تأمل هذا الحوار بين الصبي البريء، وقايد القواد ..
حاتم هل تسمعني يا ولد؟ قلت لك هل تحتاج مالا؟
لا يا لاعم قايد .. نحتاج مقعدا متحركا لأبي لو تعرف أحد المحسنين يعطيه لنا كي يساعدني أبي في العمل. ابتسم قايد بوداعة وهو يقول:
هذا واجب علي وأكثر يا حاتم، وزيادة عليه راتب أيضا من “أنصار الله”
راتب ؟ كيف ومقابل ماذا؟ سأعمل أي عمل تطلبه مني.
لا لا .. فقط نسجل اسمك كمجند وتتسلم راتبا وأنت مرتاح في بيتك. ص 178.
ومن هنا ينشأ صراع من نوع آخر، صراع بين الشخصيات المحبة للوطن وشخصيات شريرة تلقي بشباب اليمن في أتون النار.
تقدم فكرية شحرة صورة بصرية لمجتمع عربي آمن ومستقر على لسان البطل وحيد، صورة مجتمع متماسك تظهر فيه النساء بفطرتهن وبراءتهن والرجال والصبيان بسخاء المعدمين. صورة في مقابل صورة للمرأة الغانية التي تتكسب بجسدها، لعل القارئ يظفر بمشهد بصري من خلال الوصف ينم عن مجتمع عربي له عزته وشموخه وتعاونه؛ فتقول:
مررت بجوار سيدة مسنة تقف جوار بسطة للخضار ، مازالت تحرص على وضع النقاب وإن رفعت فجأة عباءتها حتى الخصر وهي تتلمس جيب ثوبها الذي يشبه عباءتها تماما فظهر سروالها الأحمر التقليدي الذي تلبسه نساء اليمن من العجائز كانت تبحث عن المال الذي تشتري به حاجيات البيت بحركة تلقائية دون تكلف. ص 100.
إن فكر فكرية شحرة غني ومعقد وباهر؛ فهي تتمتع بخيال خصب، وتقدم لوحة لغوية فاتنة، تجمع فيها بين مفردات القرى والنجوع في بساطتها وسحرها وأدائها للمعنى، ونقل إحساس حي للغة المجتمع من خلال تعددية الأصوات اللغوية في الرواية التي يرى ميخائيل باختين أنها ليست سوى محاكاة للصراع الطبقي أو تجسيم له عن طريق اللغة، فبدا تعامل الروائية مع النص بوصفه لغة تعبر عن لهجات المجتمع وأصوات أبنائه، بل إنه لا يجد في النص سوى هذه اللهجات والأصوات التي تنقل الصراع الدائر بين طبقات المجتمع إلى ساحة الخطاب الروائي؛ ولذا سنجد ألفاظا خشنة غير مطروقة بكثرة في اللغة الفصحى لكنها تنم عن بيئة معينة تعيش في اليمن العربية، مثل: بسطة الخضار، الشقات أحباب الله، دحباشي،خبز الطاوة، الشذاب، المشقر، مقرمتها السوداء، ومصرها الأخضر، الزرافيف، مشاقر، التخزينة، ارتداء المعوز، أوام..
وعلى الرغم من أن الرواية تعد رواية حرب بامتياز فقد أدخلت الروائية شحرة لغة حب شفيف جمع بين عفراء ووحيد، لغة تعبر عن عواطف دفينة، بعضها مباشر وبعضها الآخر عبر رسائل.
أطوف مدينة الحب التي صارت مدينة السلاح والأشباح.. ص 277
كم يشبه الحلم الحب.. هذا الحب الذي غدا بيننا هواء أتنفسه .. ص 270
اهتمت الروائية بالزمكانية اهتماما بالغا، فلم تكتف بذكر اليمن بل تطلعت إلى العاصمة وقرى ومدن اليمن صنعاء ومأرب وإب وتعز وغيرها من الأماكن ذات الصبغة التاريخية العظيمة، ولم يفتها ذكر المملكة العربية السعودية والقاهرة بوصفهما مدنا لها تاريخ وحضارة كاليمن تماما.
وهي تستعرض قرى ومدن اليمن قدمت لوحة بصرية شيقة فتقول عن إب بلغة سلسة طيعة لا تخلو من الإيهار ..
“إب حسناء ترصدتها عيون نهشها رغبة فاستكانت للأيادي التي امتدت لها وصار أهلها يتغنون بمقولة إب الغنجاء كارهة أهلها ترحب بمن جاء” ص81.
ثم تستعرض شحرة مهارة فائقة في رسم صورة بصرية متحركة للمكان فتقول: أشتاق لصوت احتكاك مكنسة القش بجدار التنور المعدني وهي تزيح بقايا الخبز المحترق لتستقبل قرصا جديدا ينضج على جدار التنور المتقد. اشتقت لرائحة الخبز وأمي تلقيه بين يدي ساخنا يفوح برائحة الشبع.. ص82.
وتتجلى مكونات الصورة من بصر وسمع ورؤية إلى شم ورائحة وحركة وتذوق .. صورة ناطقة بالجمال والسحر في تجسيم معالم وتخوم القرى اليمنية العريقة.
أما الزمان فهو زمان واقعي حقيقي يبدأ من بدايات الربيع العربي وانتهاء بانتهائه، يتخلله أسلوب ارتداد للخلف من خلال الأفعال تذكر، يحكى أن، قصت لي إحداهن قصة، أو من خلال منولوج داخلي مفعم بالذكريات الماضية للأماكن والشخصيات.
تسير الروائية في الزمن سيرا طبيعيا أي سردا متسلسلا طبيعيا من بداية إلى وسط ونهاية يتخلله في بعض الأحيان ارتداد مفاجئ للشخصية لتسرد حدثا في الماضي. من خلال رؤية سردية متداخلة، أي رؤية من الخلف ورؤية مصاحبة؛ فالرواي يسرد أحداثه كراوٍ عليم، وأحيانا يلج إلى نفسية الشخصية والتعبير عن عواطفها وأحاسيسها .
ومن حيث المتن الحكائي للرواية فقد تحرك الراوي في إطار تسلسل منطقي للأحداث، أي ترتيب الأحداث ترتيبا زمنيا سببيا طبيعيا. فكل حادثة لها سبب منطقي يوصل إلى حدث آخر في زمن تال ، وأحيانا يتطرق الراوي إلى المنولبوج الداخلي والارتداد للخلف عبر أزمان سابقة.
يغلب على الرواية –وهي في جزئين- طابع الفقد والموت والقتل وهذا طبيعي في العمل الروائي التاريخي الذي يؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ اليمن. مرت به معظم الدول العربية. وفي الجزء الثاني يغلب عليها طابع الحب والفراق، عفراء ووحيد ينسجان قصة حب ممزوجة بالألم والوجع والفراق.
تمتلك فكرية شحرة موهبة فذة مستقلة في شتى فنون السرد، فهي روائية وقاصة، تتوقف الأنفاس عند الاستماع إليها، تأخذك إلى عالمها السحري الرحب دون هوادة، أو استئذان، تمنحك طاقة فنية لا ينضب معينها ، ولا يجف. تواقة إلى كل جديد، لا تنشغل في أعمالها بالموضوعات السطحية، تؤمن بالإنسان كونه إنسانا، وتنطلق من اللاعقلانية التي تمسك بها الغربيون وهيمنت عليهم عند انشغالهم بما بعد الحداثة، فالعمل الفني عندها (رواية –قصة- مقال ..) ليس محاكاة وإنما سحر، لا تستجيب للحسية المباشرة للعمل الفني حيث تستعصي على التفسير، تعتنق الوجود الحقيقي وغير الحقيقي، تغوص في عالم اليمن السعيد بكل تفاصيله ومدنه وقراه بخيال سردي يقربك من الأحداث والتاريخ، تخلق منه عالما مجسدا كأنك تشاهد أحداثه وفصوله رؤية العين أو كإنسانا يتحدث، ويوجه، تعتنق الحقيقة والواقع والفقد والتفاسير وتغريك بحتمية الاستجابة لمضمون رسائلها في الرواية أو القصة، والانخراط في عالمها الماتع.
يبقى أمر لابد من الإشارة إليه-ولو إشارة عابرة- العتبات النصية في الرواية. يطالعنا الغلاف بألوانه الصفراء الزاهية في وسطه مع ألوان غامقة في نهايته مع صورة لصبي حزين يبكي بحسرة على ما يشاهد من خراب ودمار، وأغلب الظن أن اللون الأصفر الزاهي يوحي بولادة شمس جديدة تعمر الوجود ، ولادة الأمل في غد أفضل.
أما العتبة الأم فهو العنوان الكبير “شمس أوام” وكلمة أوام تشير إلى حرارة العطش، ودوار الرأس وهي كلمة ليست شائعة الاستخدام في العربية المعاصرة، وكأن الروائية تريد أن تقول إن هذه الأحداث التي حدثت لليمن وبعض الأقطار العربية كضربة الشمس التي تصيب الإنسان وتفقده حواسه، ويعاني بسببها معاناة شديدة لكنه في النهاية يصاب أو يمرض ولا يموت. فحضارة هذه البلدان باقية زاهية خالدة متجددة على مر العصور، وإن أصابها وهن في مرحلة من مراحل الزمن فسرعان ما تتدارك ذلك وتنهض من جديد.
أما العتبات الداخلية فقد جعلت لها الروائية نوعين من العتبات: العتبة الأولى جملة قصيرة تتصدر الفصل، ثم كلمة غالبا تكون اسم شخصية من شخصيات الرواية وحيد، عفراء، عمار، .. أو اسم مدينة من المدن اليمنية كصنعاء. وهي تقنية مقبولة لمن شاء أن يطالع العتبات فقد سيصل إلى ذهنه مفهوم نسبي للعمل الروائي.
ومع الإهداء تشير إلى حقيقية الأحداث وواقعيتها ومعايشة التجربة بنفسها. مما يوثق العمل ويؤرخه، وربما يحاكي الواقع المر الذي عاشته اليمن معايشة موجعة مؤلمة قاسية.
………………………..
👁️ عدد المشاهدات: 9