
مند أكثر من ثلاثين سنة، تحدثتُ عن فكرة تحجير الرمل داخل قوالب لصناعة حجارة الأهرام، مستندًا إلى منطق الموازنة بين الفاعل والمفعول، بين الإنسان وإمكاناته المحدودة آنذاك، وبين الإنجاز الضخم الذي يفوق ما هو متاح من أدوات ومعرفة في تلك الحقبة، لم يكن هذا الطرح خيالًا ولا تهويمًا فكريًا، وإنما هي قراءة تأملية واقعية لما يمكن أن يفسر سر هذا البناء المذهل، بشكل ينسجم مع الطبيعة والظروف المناخية والمعرفية للمنطقة،
لقد لاحظت أن فكرة نقل آلاف الأطنان من الحجارة الضخمة من محاجر بعيدة، عبر طرق وعرة، وبوسائل بدائية، لتُصفّ بهذه الدقة العجيبة، تبدو أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقعة. فانبثقت لديّ فرضية تقول إن الأهرامات لم تُبن من حجارة مقطوعة، وإنما هي مادة رملية صُبَّت في قوالب خاصة، ثم تُركت لتتفاعل مع حرارة الشمس، ولا يستبعد ان تكون مادة خلط تساعد على التحجير، ومرور الزمن حتى تصل إلى درجة التحجّر، وكأننا أمام خرسانة طبيعية مصنعة في الموقع، وقد استنبطت هذا مما رأيته في إحدى مآثر بعض القرى التي كانت تنبني بيوتها بالطين بعد وضعه في قوالب فتترك حتى تجف، ثم انها تحجرت فصارت صلبة، هكذا
الفكرة انبثقت ، وهي التي طرحتها في زمن لم يتقبل مني هذه النظرية، إذ كانت ثمرة منطق تأملي في العلاقة بين البيئة والإنسان، وفي استغلال المواد الطبيعية المتاحة بذكاء، بعيدًا عن النظرة النمطية التي ترسم القدماء كجماعات بدائية لا تملك سوى المطرقة والازميل، الإنسان المصري القديم – في تصوري آنذاك كان مبتكرًا لمادة حجرية من الرمل المحلي، شكّلها بقوالب منتظمة، وجففها تحت شمس مصر، فصارت أعجوبة تتحدى الزمن.
في قوله تعالى:
“فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ”
يأمر فرعون وزيره هامان أن يوقد النار على الطين ليصنع له الآجر، أي الطوب المحروق، لبناء صرح عظيم، أي قصر شاهق رفيع، كما جاء في قوله الآخر:
“وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ ٱلْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا” [غافر: 36-37].
لقد أراد فرعون بهذا العمل أن يُظهر لقومه أنه يسعى للتحقق من دعوى موسى، لكنه في الواقع كان يقصد تكذيبه علنًا، وإثبات أن لا إله غيره. وقد زُيّن له هذا العمل وسُدَّ عليه باب الهداية. فهو لا يعترف بوجود خالق، بل قال:
“ما علمتُ لكم من إله غيري”،
وقال أيضًا:
“وما رب العالمين؟” [الشعراء: 23].
وهنا بيت القصيد: فإن إشعال النار على الطين لتحويله إلى حجر (الآجر) يدل على معرفة تقنية متقدمة في البناء باستخدام مواد محرقة، وهو ما يثير تساؤلًا مشروعًا حول ما إذا كانت هذه الطريقة هي نفسها أو شبيهة بما استُخدم في بناء الأهرام.
فهل من الممكن أن بناء الأهرامات اعتمد على تحجير الرمل أو الطين في قوالب تحت تأثير النار والشمس والزمن؟
إن الربط بين ما ورد في القرآن عن بناء الصرح بالنار والطين، وبين النظريات التي تفترض أن أحجار الأهرام لم تُنحت، بل صُنعت وصُبّت، يعزز هذه الفرضية ويجعلها أقرب للتأمل العلمي التأريخي، ويعيد النظر في قدرة الإنسان القديم عندما تُسند إليه وسائل ذكية لا تعتمد بالضرورة على القوة، وإنما هي حالة استثمار العناصر الطبيعية.
فالأهرام لا تزال شاهدة، لا فقط على عظمة الإنسان القديم، بل على صمت طويل خفيّ حول الوسائل التي بلغ بها هذه العظمة. وإن لم يكن الزمن قد أنصف هذا الطرح من قبل، فلعله يفعل الآن، إذ إن الحقيقة لا تموت، وهي تنتظر من يملك الجرأة على إعادة بعثها من ركام التكرار العقيم.
…………………………..
👁️ عدد المشاهدات: 32