
وقعتُ في حيرة واستغراب وتساؤل، بعد أن أشار إليّ الصديق الشاعر/ محمد فرغلي، إلى إعلان فتح باب التقدم لجوائز الدولة للتفوق في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية لعام 2026. قرأت الإعلان بكل تفاصيله، بل أعدت قراءته مرات، لأتأكد من أمرٍ أثار دهشتي وقلقي: لا وجود لجائزة مخصصة لشعر العامية المصرية.
فقد تم استبعاد ديوان شعر العامية من قائمة فروع الترشح هذا العام، وهو ما دفعني لطرح تساؤلات حقيقية:
هل نحن نسير حقًا نحو التقدم والرقي؟ أم أننا لا نزال أسرى أهواءٍ تُقصي، وتوجّهات ترفض الآخر؟ (ربما تأثّر القرار بتفضيلات غير معلنة).
إن هذا الاستبعاد لا يمكن النظر إليه كمجرد قرار إداري عابر، بل هو صفعة على وجه أحد أهم فروع الإبداع المصري: شعر العامية، الذي كان — وما زال — الرافد الأساسي لتشكيل وجدان الشعب وهويته الثقافية.
هل أخطأ شعر العامية؟ هل قصَّر شعراؤه؟ أم أن القائمين على الجائزة اختاروا الطريق الأسهل؟
أعتقد أن التحكيم في الفصحى مريح، له قواعد وأدوات معروفة.
لكن العامية؟ هنا تبدأ المعركة.
العامية ليست مجرد لهجة عابرة، بل كيان ثقافي وفني له عمق وخصوصية، تحتاج إلى من يفهمها، ويقرأ نبضها، ويزنها بميزانها الخاص.
هل لا تستطيع إدارة الجائزة توفير لجان تحكيم ونقاد قادرين على التحكيم لمثل هذا الفرع الصعب؟
العامية، يا سادة، رغم بساطة لغتها وأدواتها، إلا أنها حقًّا صعبة، وأصعب بكثير مما تحاولون الانتصار له على حسابها.
كل الإبداع متجاور يخدم الهوية المصرية، فلماذا الإصرار على التنافر ورفض الآخر؟
تجاهلها ليس حيادًا، بل استسهال، وربما عجز عن مواجهة صعوبة التقييم.
كيف يمكن أن نغض الطرف عن لغة الناس، عن لسان الشارع المصري، عن المفردات التي شكَّلت وجدان الملايين؟
أم كلثوم غنَّت بالعامية، بيرم التونسي دوَّن بها، صلاح جاهين صاغ وجع الهزيمة وفرحة النصر بكلماتها.
هل كان هؤلاء أقل شاعرية من غيرهم؟ أم أن الجائزة تخشى أن تعترف بأن العامية شريك أصيل للفصحى في صناعة الوعي؟
إن جوائز الدولة — إن أرادت أن تحتفظ بهيبتها — مطالبة بأن تواجه الصعب لا أن تهرب منه، أن تحتضن العامية لا أن تتجاهلها.
فالقيمة الحقيقية للجائزة لا تُقاس بعدد اللجان، ولا بسهولة التحكيم، بل بقدرتها على أن تكون مرآة صادقة لكل ألوان الإبداع المصري.
إن جوائز الدولة، بما تمثله من مكانة رمزية وأدبية، مطالبة بأن تعكس حقيقة المشهد الإبداعي المصري، لا أن تُعيد إنتاج مركزية ثقافية تجاوزها الزمن.
العامية ليست لهجة عابرة، بل لسان وطن، وجسر بين التراث الشعبي والوعي الجمعي.
تجاهلها ليس مجرد استبعاد فني، بل إقصاء لجزء هام وحيوي من الروح المصرية.
………………………………
ملحوظة:
أكتبُ الشعر بالفصحى والعامية، وأمارس النقد، ومع ذلك، أرفض تمامًا استبعاد أي فرع من فروع الإبداع من جوائز الدولة، أيًّا كانت طبيعته أو لغته أو مجاله.
فالدفاع هنا ليس عن العامية وحدها، بل عن مبدأ أساسي: أن يكون لكل صوت مبدع مكان، ولكل شكل فني اعتراف.
فالإبداع لا يُقسَّم إلى درجات، ولا يجب أن يُنتقص من حضوره تحت أي ذريعة.
…………………………….
👁️ عدد المشاهدات: 319