
منذ حوالي عام ونصف، فتحتُ حاسوبي الخاص وأنشأت ملفًا جديدًا ليكون مخطوط روايتي الأولى، والأخيرة بالطبع. حَضَرت الفكرة فجأة وبسهولة. كتبت كلَّ ما وَرَدَ لي، وأغلقتُ الملف مُتحيرة مُتشكِّكة في كل ما كتبت، فكما تعلمون، إطلاق اسم “رواية” على ذلك الملف مسألة غير سهلة وإن جاءت الفكرة بسهولة. قُلتُ أن عليَّا قراءة الأخضر واليابس من الروايات، والكثير جدًا من كُتب فن الرواية، وإعادة بعض القراءات التي كانت بعين الشاعرة لا بعين من تُريد كتابة السرد.
بصورة عامة، أعرف أن ذائقتي الخاصة لا تستجيب لأمرين في الروايات: الوصف فائق التفصيل للطبيعة أو المكان. وتلبيس الرواية أفكار فلسفية عينها وإنطاق الأبطال بها كأفكار أفلاطون، شوبنهور، نيتشه، سارتر أو غيرهم. أعرف أيضًا العالم الروائي لـ “وحيد الطويلة”. وأعرف كيف ترتبط فيه الخبرة بالخيال على نحو أصيل، فقد دخلت من “باب الليل” ومكثت طويلًا في “حذاء فيلليني”. ولكن، وفقًا لبرنامج القراءة الذي حددته لنفسي مُسبقًا، ومراعاتي لاختيار روايات صغيرة من حيث الحجم، تصف عالم النساء أكثر مما تصف غيره. وقع اختياري على رواية “كاتيوشا”… كاتيوشا ليس اسمًا لبطلة الرواية، كاتيوشا هي الرواية، كل الرواية. هي قذيفة صغيرة في الصفحة الأولى، صوَّبها “رشيد” من فمه إلى رأس “مشيرة” مباشرة، لينتقل هو إلى عالم يتوسط الحياة والموت، وتنزف هي – أو بالأحرى – يستنزفُها الشَّك وشلالات هادرة من الأسئلة على مدار ما تبقى من صفحات. تحدثُ الرواية كلها والبطلة في حالة لا يُمكن لامرأة على وجه الأرض أن تحسدها عليها : حالة من صرَّح لها زوجها توًّا بخيانتِهِ دون أدنى شُعور بالذنب.
ربما تُفكِّك هذه الرواية الخيانة وتاريخ الخَطف. وتكشف – بحق – عن هشاشة العلاقات البشرية خصوصًا في وَسط الأُدباء والكُتَّاب. مُعضلة أن تتزوج امرأة “مؤلفًا روائيًّا”، يجذبُ النساء بطبيعته، ويقتضي عمله – بشكل أساسي – تتبُّع النساء من الرأس حتى القدم ومرورًا بكل شيء. فضلا عن وقوعها في عشقه، والتعايُش مع طبيعته المزاجية المُتقلِّبة، حتى صار الشريك الأوحد لعمرها كله. وكان السؤال الأكثر وضوحا: هل يستطيع مثل هذا الرجل أن يُحب امرأة ما بصدقٍ؟
بكل بساطةٍ، وكما أتصور، وضع “الطويلة” (الأنا) أمام (الآخر) وجها لوجه. الأنا أمام قبول إهانتها أو فقد الشريك، “إما أنا أو أنت”؛ وهذه – من وجهة نظري – أكثر الصياغات الشرطية صعوبة على الإطلاق. بدا لي أن “الطويلة” لم يكن عدميًّا لدرجة أن يسمح لمشيرة بالانتقام أو الطلاق أو حتى تبادل الأدوار، ظل طوال الرواية مُتمسكا بالحفر تحت مفهوم الحب بحرفية شديدة (أحسده عليها)، وبمحاولة إظهار المعنى الأكثر قوة وتماسُكا في العِشق. بأقل قدر من وصف الموجودات المادية، والكثير جدًا من وصف الشعور المباشر المطرد في ذهن البطلة وتداعياتها في كل الأحوال. ومثل أي رواية جميلة، تركت الرواية خيطا من الأسئلة أكثر مما منحت إجابات…
فليغفر لي النقَّاد كتابتي عن رواية مثل هذه دون استخدام أدوات النقد ومصطلحاته، تمامًا كما سأغفر لنفسي التأخير في قراءتها وقراءة غيرها من الروايات المُهمة. ولكن، وكما تعلمون، أن تبدأ متأخرًا أفضل من ألا تبدأ أبدا.
………………………………………
👁️ عدد المشاهدات: 20